جزيلة. وكان متقدما في ورعه وفضله، محبا للخير وأهله، كثير الصلاة، دائم الخشوع والذكر الله عز وجل، كثير التواضع، منكرا للسرف ومبعدا لأهله، شديد الوطأة على ذوي الظلم والجور. وكان متفننا في ضروب العلوم، بصيرا بلغات العرب، فصيح اللسان، حسن البيان وكان لا يخلو في أكثر أيامه من مقاعدة وزرائه ووجوه رجاله؛ فإذا انقضى خوضهم في الرأي والتدبير لأسباب مملكته وما كان يحاوله من حسم علق الفتنة، خاض معهم في الأخبار والعلوم. ولم يكن ممن اشتغل بلذة، أو قارف شيئا من الأنبذة في أيام خلافته ولا قبلها. وهو ابتنى الساباط بين القصر والجامع بمدينة قرطبة، رغبة في شهود الجمعة، ومحافظة على الصلوات، وحبا للصالحات. وكان يقعد في الساباط قبل صلاة الجمعة وبعدها؛ فيرى الناس، ويشرف على أخبارهم وحركاتهم، ويسر بجماعاتهم، ويسمع قول المتظلم؛ ولا يخفى عليه شئ من أمور الناس. وكان يقعد أيضا على بعض أبواب قصره في أيام معلومة؛ فترفع إليه فيه الظلامات، وتصل إليه الكتب على باب حديد قد صنع مشرجبا لذلك؛ فلا يتعذر على ضعيف إيصال بطاقة بيده، ولا إنهاء مظلمة على لسانه. وكان أهل المكانات وذوو المنازل والأقدار يتحفظون من كل أمر يوجب الشكوى بهم، وينقبضون عن التحامل على من دونهم، ويهابون عقابه، ويحذرون إنكاره، ويتحرون موافقة مذاهبه. وكانت اللذات مهجورة في أيامه، واللهو غير مقترف من جميع خاصته وعامته، وإعمال الخير وإظهار البرّ والتقوى فاش في كل طبقة من رجاله ورعيته. وكان - رحمه الله - كثير الاستغفار لله عز وجل، ومتحفظا من اليمين باسمه؛ فإذا حلف له حالف بالله، صدقه؛ وإذا شفع به إليه شافع، شفعه؛ أو خائف، أمنه؛ أو مذنب، صفح عنه. ومآثره كثيره، وفضائله محفوظة مذكورة. وكان قد فتح بابا في القصر، سماه باب العدل. وكان يقعد فيه للناس يوما معلوما في الجمعة، ليباشر أحوال الناس بنفسه، ولا يجعل بينه وبين المظلوم سترا. وكان بصيرا باللغات، حافظا لأشعار العرب وأيامها وسير الخلفاء،