تسكين بعض تلك المخارج، وقطع التصويت منها حرفا إذا وقع على صفة مخصوصة معلومة، فهذا مائية الكلام عندهم.
ونحن لا ننكر ما قال هؤلاء من كون الصوت الممتد لا يكون كلاما، ومن كون التقطيع على نسبة معلومة يكون كلاما، لكنهم أنكروا كلاما سواه، وقلنا نحن بل هاهنا كلام سواه، هو الأصل، وهو الحديث النفسي، وما يجده الإنسان في نفسه من الخواطر والأحاديث الدائرة في قلبه، وهي عندنا تسمى كلاما على الحقيقة.
واختلف قول الأشعري في تسمية نطق اللسان كلاما، هل هو حقيقة أو مجاز.
وابن الجبائي لم ينكر إثبات كلام النفس، ولكنه أثبته صوتا وحرفا، كلاما خفيا على خلاف عنه، هل يسمعه الإنسان من نسه أم لا، ورأى مصداق كون الإنسان إذا حبس نفسه، لم تخطر له الخواطر، لسكون حركة الحشا، لقطع الهواء الداخل عليه، الخارج عنه، اللذين يقرعانه، حتى إذا أرسل نفسه ولج الهواء، وخرج، وصار في الشراسيف من القرع والتحريك والاختلاج ما يكون منه التصويت الخفي.
وهو في هذا المذهب الذي فارق به أصحابه ليس منا أيضا، ولا نحن منه، لأنا نثبت كلام النفس، ليس بصوت ولا حرف، وننكر قوله إن قاطع النفس بعدم الخواطر، وإن عدمها فلاشتغاله بما أحدث على نفسه، وجناه عليها، كما يشتغل المتألم بألمه عن الفكرة فيما سواه.
على أن مثل هذا لا يحتج به، وإن سلم، وهذه عوائد لا تتلقى منها هذه الحقائق، ولا يظهر إثبات حقيقة عقلية، ومعنى ذاتي للكلام إلا على أصلنا في إثبات حديث النفس، ولا على أصل من صرفه إلى ضرب من التقطيع اصطلح عليه، لأن الاصطلاح يتبدل، وما أثبتناه في النفس لا يتبدل، ولم يقدر أحد على إنكار ما في النفس من الكلام على الجملة، ولكن كل طائفة صرفته إلى مرادها، المطابق لاعتقادها.
فالفلاسفة يحيلون ذلك على ترهاتهم التي كنا قدمنا القول فيها من فيض العالم العلوي على السفلي، إلى غير ذلك مما بسطنا القول فيه، والمعتزلة تحيل ذلك على أنه تقدير النطق بالكلام الصوتي كيف يقع، وتصور للنفس، وتحيلها لما تحب أن توقع منه أو إلى الإرادة أو العلم، إلى غير ذلك من دعاويهم التي [إذا] سوعدوا عليها اختلطت الحقائق والأجناس.
ونحن نعلم قطعا أن الإنسان يجد في نفسه طلب عبده أن يسقيه ماء، ويحس هذا الطلب من نسه، كما يحس علومه، وقدرته، وإرادته، ويجد هذا في نفسه على جنس، وحقيقة، مخالفة للأجناس التي صرفته إليها المعتزلة، وصرفهم إياه إلى العلم بكيفية نظم الحروف وترتيبها باطل، لأن الإنسان إذا قال لغلامه: افعل، وجد في نفسه معنى القول: