مناسبة بين هذه المبالغة وبين الاقتضاء على أدنى أوصاف الفعل الذي لا يمتنع من الاعتداد به، بل الفعل معه جازيا معتدا به، كما يعتد بالفعل الكامل، فتحمل مثل هذه الأحاديث الواردة في العبادة المحتملة لنفي الكمال والإجزاء، على أن المراد بها نفي الإجزاء، وإنما يصرف عن ذلك إلى نفي الكمال خاصة بضرب من التأويل والترجيح، ولكنه لا يطالب الفقيه فيه نفسه بما يطالب به نفسه في الزوال عن نصوص الخطاب. وهذا المذهب الذي اختاره هو الأصح عندي، لأجل ما اعتللت به، وقد تقدم اختياري في مثل هذه الطريقة في حمل الأوامر على الوجوب، وإن كان أبو المعالي خالفني فيها هناك كما تقدم.
[فصل في حقيقة كل نوع من الأحكام الشرعية]
قد تقدم الكلام على حقيقة العلم الشرعي على الجملة، ولماذا يرجع؛ هل إلى قول الله سبحانه، أو إلى ذوات الأفعال المحكوم [عليها]. والكلام هاهنا في تفاصيله، وهو ينقسم إلى قسمة هي كالجنس، فيقال: الفعل إما أن يكون للفاعل أن يفعله، وإما أن يكون ليس له أن يفعله، وهذه قسمة يقدح فيها بأن الواجب لا يقال فيه للمكلف أن يفعله، لأن هذه العبارة تشعر بالمسامحة في تركه، وإنما يعبر عنه بأن يقال: على المكلف أن يفعله، فصارت القسمة غير حاصرة من هذا الوجه ومن غيره أيضا، وقد تقدم إشارتنا إلى هذا التعقب، حيث ذكرنا الاختلاف في الوجوب هل ينطوي على الجواز أم لا؟
وأما القسمة النوعية فهي خمسة؛ الوجوب، والندب، والحظر، والكراهة، والإباحة. فالوجوب والندب مأمور بهما، والحظر والكراهة منهي عنهما، فصارا من هذه الجهة قسمين، ويكون المباح قسما ثالثا، وقد قسمت على هذا النحو، فقيل: أمر، ونهي، وإباحة.
فأما الواجب فله تفسيران: لغوي واصطلاحي.
فأما اللغوي فأصله في اللغة: السقوط، والثبوت، كقول العرب: وجب الحائط، بمعنى سقط، قال تعالى:(فإذا وجبت جنوبها)، بمعنى سقطت.
وأما الاصطلاحي فمأخوذ من هذا، وذلك أن الله سبحانه إذا ألزم المكلف فعلا صار هذا الفعل بإلزامه سبحانه إياه لا محيص له عنه، كما لا محيص في السقوط، ويعبر عن هذا في الشرع واللغة بعبارت ست، فيقال: واجب، ولازم، ومفروض، ومحتوم، ومكتوب، ومستحق. وقد قال تعالى:(كتب عليكم الصيام)، وقال تعالى: (أنلزمكموها وأنتم لها