وأما تحقيق معنى الوجوب على صناعة الحدود، وقدمنا فيما سلف التنبيه على صفة استخراج الحدود، ووجه العمل في هذا على تلك الطريقة: أن الواجب ينبغي أن ينظر إلى الخاصية التي يميز [بها] عن بقية الأحكام الأربعة، فنجده يميز عن الحظر، والكراهة، والإباحة، بما يتعلق بفعله من المدح والثواب، لكنه يشاركه المندوب إليه في هذا، فجيب النظر إلى خاصية تفرق بينه وبين الندب، فتجدها أمرا يتعلق بالترك، وذلك أن الواجب يذم ويعاقب على تركه، والندب (ص ٩٤) لا ذم في تركه ولا عقاب، فمن نظر إلى هذا النظر تعرض في حده إلى ما يتعلق بفعله، وإلى ما يتعلق بتركه فقال: حد الواجب: ما في فعله ثواب، وفي تركه، وترك البدل إن كان ذا بدل استحقاق عقاب، وهو حد اختاره القاضي ابن الطيب.
ومن نظر نظرا آخر رأى أن تعليل الخواص في الحد أولى ـ ووجد في خاصية الترك معنى يفرق بين الواجب وبين ما سواه، استغنى عن النظر لما يتعلق بالفعل، والذي يختص بالترك: اللوم، والذم، والعقاب، فإذا حد بهذا المعنى صح حده.
وهذه الطريقة حد بها القاضي أيضا، وإليها مال اختياره، وكأنه رأى أن الثواب والعقاب يعقل [منهما] معنى الوجوب، فلو فرضنا عدم الشرائع وصورنا اقتضاء جزميا من سيد لعبده لتصور معنى السقوط واللازم في العبد، حتى يصير بمعنى السقوط الذي هو أصل الاشتقاق، فاقتضى هذا عنده اختيارا لا يتعرض لذكر الفعل، وإنما يتعرض لذكر الترك، ولكن بعبارة الذم واللوم، فيقال: ما استحق الذم بتركه، أو ما استحق اللوم بتركه. ولكنه استشعر مع هذا قدحا في الحد من طريقة أخرى، وذلك أن العبادة ذات البدل ككفارة اليمين، أو كفارة الحلاق في الحج، أو جزاء الصيد، إذا فعل أحدها أثيب عليه ولم يأثم ولا يلام ولا يعاقب على ترك ما ترك من أبداله، وقد كانت أبداله موصوفة بالوجوب على غير جهة التعيين، كما قدمناه في بابه.
فهذا واجب، وهو الإعتاق مثلا لم يتعلق الإثم بتركه إلى بدله الذي هو الأبدال مع كون الإطعام واجبا على صفة ما قدمناه، فاقتضى هذا القدح من هذه الجهة تقييدا في الحد