وأما السنة فقال هؤلاء:"إذا أصيب المعنى فلا بأس"، ولكن هذا الحديث لا يثبت ثبوت الحديث المتقدم الذي تعلق به الآخرون، ولا اشتهر اشتهاره.
وأما الاستدلال فإنهم يقولون رأينا الصحابة تختلف عبارتها في حديث واحد يحكونه عن النبي عليه السلام، وما ذاك إلا لأنهم إنما كانوا يراعون المعنى وضبطه، فإذا حصل لهم اليقين بتحصيل المعنى عبروا عنه بما يفهمه السامع منهم.
ولا يحسن أن يجاب عن هذا بأن يقال: ما أنكرتم أن يكون النبي عليه السلام ذكر الحكم في مجالس مختلفة بعبارات مختلفة، فحدث كل راو بالعبارة التي سمع، لأن هذا التجويز إنما يحسن تصوره لو كان الواقع من هذا حيدث أو حديثان، وأما فقد وقع من ذلك من الرواة ما لا يحصى كثرة، ومن البعيد أن يكون يتصور المحصل أن النبي عليه السلام كرر جميع ذلك على كثرته، وكرر كل واحد منه مرات كثيرة بحسب اختلاف عبارات الرواة.
وأيضا فإنهم كانوا يرددون الحديث بعبارات مختلفة، ولا يتحاشى الراوي الواحد منهم من ذلك، ولا يأبى عنه بأن يفعل منه بقدر ما يظهر له من فهم السامعين، وتحصيل الإيضاح والبيان لهم.
وأيضا فإن النبي عليه السلام كان يبعث رسله إلى الجهات، ولا يأمرهم لأن ينقلوا نفس ألفاظه، ولا يكلفهم ذلك، وأيضا فإن النبي عليه السلام قد بعث إلى سائر أهل اللغات، ولابد من الترجمة عنه لأهل كل لغة بلغتهم، ونقل المعنى من لغة إلى لغة أخرى أبعد من نقله من اللغة نفسها إلى اللغة نفسها إذا اختلف عبارتها. وهذا قد يجيب عنه الآخرون بأن هذه اضرورة لكون العجم لا تفهم لغة العرب، ولا ضرورة بالراوي في أن يبد لفظة بلفظة أخرى، وهو ذاكر لها. وقد أشرنا أن القاضي عبد الوهاب يرى أن ما طال من الكلام حتى لا يمكن ضبطه يسوغ التبديل فيه للضرورة إلى ذلك، بخلاف ما قل من الكلام الذي وقع فيه اختلاف العلماء، كما قدمناه، وهذا من ذلك فافهمه.
[فصل [في جواز الاقتصار على نقل جزء من الحديث]]
لما تكلمنا على نقل الحديث بالمعنى (...) ترتيب الحذاق هذا الفصل به