وأشار أبو المعالي أيضًا في رد هذا الاستدلال إلى كون كثير من المكروهات تخرج عن عهدة الأمر ويقع بها الاعتداد، وأن هذا إنما يوقف على ما جاء الشرع به، كيف والحرام المحض وهو الصلاة في الدار المغصوبة يقع الاعتداد بها كما قدمنا في بابه، فكيف بالمكروه.
وهذا الذي قاله إنما يرد به على من عمم القول في أنه لا يعتد بفعل مكروه، وأما من يقول: إن الأصل أن الأمر لا يتناول المكروه وإذا لم يتناوله بقيت المطالبة بموجب الأمر الأول، فلا يناقض بأعيان مسائل فقهية، ولكن قد يحقق هذا معه حتى يعتبر مقصود الشرع في النواهي، ويفرق بينه وبين ما لا يقصده الشرع منها كما تقدم مرارا.
[فصل في النهي عما يمكن اجتنابه]
النهي يرد جزما، وتخييرا، على حسب ما تقدم بيانه في الأوامر، والتخيير فيه ضدين لا ثالث لهما، يصح إذا ورد بمعنى ملازمة المكلف أحد الضدين الذي اختاره وآثره على نقيضه، مثل أن يقول: أنهاك عن الحركة أو السكون، اجتنب أيهما يثبت، ودم على اجتنابه دواما مطلقا، أو إلى حين، لأنه في سعة ألا يدوم على أحدهما، فصار التكليف متوجها إلى حالة يمكن اكتسابها أو اكتساب نقيضها من معاقبة الضد بالضد، بخلاف تصوير هذا في التخيير بين ضدين يجتنب أحدهما في حالة واحدة.
وقد منع بعض الناس التخيير بين مذهبين، وزعم بعض هؤلاء أن اللغة لم ترد بذلك، ألا ترى أن قوله سحبانه:(ولا تطع منهم أثمًا أو كفورا) محمول على أنه نهي عن طاعة الآثم والكفور جميعا، وهذا لبس، ولولا الإجماع على أن المراد في الشرع النهي عن طاعة الجميع لم يحمل هذه الأية على معنى الجمع دون التخيير.
وأما النهي عن الضدين جميعا، وإلزام المكلف الخلو منهما، والتعري عنهما كقوله: لا تتحرك ولا تسكن الآن، فهذا عين تكليف ما لا يطاق، وفيه الخلاف المتقدم، والخلاف في النواهي فيه كالخلاف في الأوامر، فلا فرق بين أن يقول: تحرك واسكن معا، أو لا