مأمورًا منهيًا عنه، فلم يبق إلا صرف التحريم للقصد والإرادة.
وهذا الذي قاله مراغمة لما أجمع المسلمون على خلافه، ومن النكير عند المسلمين أن يقال: السجود للصنم غير محرم، وصرف قول المسلمين: السجود للصنم محرم، إلى أن مرادهم القصد والإرادة، خروج عن ظاهر لفظهم، وحقيقة كلامهم بغير دليل اقتضى ذلك، فهذا يهدم كثيرا من حقائق التكاليف وأحكام الشرع، ويجره إلى أن يقول: نس واطئ الزانية ليس بحرام على الزاني، وإنما يحرم القصد، وهذا من منكر القوم.
[فصل في بيان مراد الشرع بصيغ نافية لذوات واقعة]
هذا قد جاء الشرع به في معاني إثبات، ومعاني نفي، مقطوعا به ومظنونا، فالذي في معنى الإثبات قوله تعالى:(حُرمت عليكم أمهاتكم)، ومعلوم أن نفس الأم لا يحرم، والمحرم معنى آخر غير ذلك، وهو غير مذكور، فالمنطوق به غير مراد، والمراد غير منطوق به. وكذلك قوله تعالى:(الحج أشهر معلومات)، ونفس الحج ليس هو الأشهر، فالمنطوق به غير مراد، والمراد غير منطوق به. وكذا ما جرى على هذا الأسلوب مما وقع في الشرع.
وقد قال قوم: إنه مجمل، واعتلوا بالإجمال بما بيناه من كون المراد غير مذكور، ومن الناس من أنكر الإجمال في مثل هذه الصيغ، ورأى أن الذوات لم يتعرض إليها وإنما التعرض لأوصافها، وهذا معلوم عند أهل اللسان، لاسيما في مثل قوله:(حرمت عليكم أمهاتكم)، فإن جماعة المحققين وجمهور الأصوليين ينكرون الإجمال في هذا ويرون أن المحذوف أسبق إلى الفهم من معنى النطق، ولا يخفى عن سامع من العرب لهذا الخطاب أن المراد به وطء الأمهات، بحذف المضاف وهو الوطء وأقام المضاف إليه وهي الأمهات مقامه مجازا عرفيا، تعارف أهل اللسان على تفاهم هذا المجاز من مجرد اللفظ، كما لا يشك أحد منهم أن مراد القائل: حرمت عليك هذا الطعام، أكل الطعام، دون ذات الطعام.
وأما قوله:(الحج أشهر معلومات) فطريقة من صار إلى إجماله ما بيناه، أو سلك طريقة أخرى سنبينها، ويراد أن المراد بقوله:(الحج أشهر معلومات) إما أفعال الحج على أصل مالك المجيز تقدمة الإحرام على أشهر الحج، وإما وقت الحج على رأي المخالف