قد تقرر أن الشريعة منها أحكام مبتدأة، لم يثرها سبب كالصلاة، والصوم، والحج إلى غير ذلك، مما بين في أحكام العبادات والمعاملات، ومنها ما خرج على سبب، وينبغي أن يحتفظ على هذه العبارة التي هي قولنا: على سبب، لكونها أولى من قولك عند سبب، لأن قولك على سبب يوجب ارتباط الثاني بالأول، وقولك عند سبب لا يوجب ذلك، ألا تراك إذا قلت: ضربت غلامي على قيامه، أشعر ذلك بأن قيام الغلام كالعلة في ضربه، وهي السبب فيه، وإذا قلت: ضربت غلامي عند قيامه، لم يشعر بهذا المعنى، وأمكن أن يريد ذكر ما اتفق وجوده من حركات الغلام عند حركاتك أنت في ضربه.
وإذا ثبت خروج الخطاب على سبب، فلا يخلو الخطاب، إما أن يكون لا يستقل بنفسه، ولا يفهم معناه دون أن ينتقل إلى السامع سببه كقوله عليه السلام، وقد سئل عن بيع التمر بالرطب:"أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم، فقال: نعم، فقال: فلا إذن"، فقوله:"فلا إذن"، لو وجد بالنقل، ولم يذكر سببه، ولا المراجعة التي كانت قبله لم يفهم معناه، ولم يستبن به مراد، وهكذا إخباره تعالى عن قول أهل النار: نعم، لما سألهم أهل الجنة: هل وجدوا ما وعدهم ربهم حقا، لأن قول أهل النار، نعم، لا يفيد إلا أن يفيد عماذا أجابوا.
ومن هذا النوع قوله عليه السلام، وقد سئل عن ماء البحر:"هو الطهور ماؤه"، فإن هذا القول لو نقل دون السؤال الذي هذا جوابه، لم يعرف لماذا أشار بقوله:"هو الطهور ماؤه".
وهذا القسم من الأجوبة لا يختلف في قصره على سببه، لأنه لما كان لا يستقل بنفسه، صار هو السبب كالشيء الواحد لا يفترقان، وأما أن يكون اللفظ مستقلا بنفسه يفهم معناه، وإن لم ينقل سبه كقوله عليه السلام لما قيل له في بئر بضاعة: إنها تطرح فيها الحيض، ولحوم الكلاب، وما ينجس الناس، فقال:"خلق الله الماء طهورا"، فلو نقل إلينا هذا اللفظ الواقع من النبي عليه السلام دون سببه لفهمنا معناه وحملناه على عمومه في سائر المياه، إذا قلنا بالعموم، وهذا موضع اختلاف الناس؛ هل يقصر على سببه، ويرد اللفظ عن حكم عمومه إلى حكم خصوص السبب، حتى يكون السبب كأنه انسحب حكمه في