وقد أغلى أيضا بعض من رد المراسيل حتى قال: إذا أرسل روٍ حديثا، وأسنده غيره رددت المسند، وهذا لا وجه له، ولا يخفى فساده على محصل، وليس تقصير رجل يقتضي رد صواب رجل آخر. وهذا واضح. وفيما ذكرناه في هذا الباب كفاية.
وبالجملة فإن القول في المراسيل طريقه الاجتهاد، وتلحق المسألة بالظنيات، وقد أريناك طرقها.
[فصل في تحمل الرواية وتلقيها]
ذكر أبو المعالي في هذا الفصل مسائل افتتحها بالكلام على صفة السماع، فاعلم أن حملة الحديث يحملونه عن أشياخهم على رتب متقاربة ومتفاوتة.
فمن الرتب التي يعول عليها حملة الحديث قراءة الأستاذ على التلميذ ما يأمره بروايته عنه، وإملاؤه عليه ذلك، فإذا قال مالك لابن القاسم، وقد حضره ليروى عنه: حدثني فلان عن فلان أن النبي عليه السلام قال كذا وكذا، وقرأ عليه ذلك من صحيفة بيده، أو عن ظهر قلبه فحفظه منه تلقيا، أو كتبه عنه إملاء، فلا يشك أحد في صحة هذا التحمل والتحميل. وهو من أعلى مراتب النقل وأقواها.
ويجوز هاهنا للتلميذ أن يعبر عن ذلك بأن يقول: سمعت منه، أو أخبرني، أو حدثني، أو قرأ عليّ، إن كان ذلك قراءة من الشيخ، أو أملى علي إن كان ذلك إملاء منه، لأن هذه العبارات كلها صدق بمطابقتها ما جرى.
ومن مراتب التلقي أن يقرأ التلميذ على أستاذه كتابا، والأستاذ يسمع منه جميع ما قرأه عليه، على وجه يتحقق التلميذ أنه لم يغفل ولم يسه عن شيء مما قرأه عليه، بل تحقق ما قرأه عليه، ثم قد يختلف الحمل هاهنا فيقول الأستاذ للتلميذ: أرو عني ما قرأت عليّ، أو يقول له: الأمر كما قرأت، أو الذي قرأت صواب وحق، أو يصمت الشيخ فلا يقول حرفا.
أما إذا قال عقب فراغ التلميذ من القراءة: أرو ما قرأت عليّ، أو الأمر كما قرأت، أو الذي قرأت حق وصواب، أو أورد عبارة أو إشارة يفهم منها هذا المعنى، فلا شك أن هذا من التلقي الصحيح المقبول المعمول به، ونطقه هاهنا بأن يقول: أرو عني ما قرأت، يحل محل قراءة الأستاذ بنفسه، وكذا إذا قال له التلميذ: أئذن لي في أن نروي عنك ما قرأت عليك، فقال له: نعم، أو أشار إليه برأسه إشارة يفهم منها ضرورة الإذن، فلا يمتري لبيب في صحة هذا النقل والثقة به.
وأما إن لم يقع من الأستاذ عبارة ولا إشارة حتى انصرف عنه التلميذ، فهذا مما ذكر