وقد أورده أبو المعالي هاهنا بعد هذا الباب في باب أفرده له، ونحن نكتفي بما قدمناه، وعول هؤلاء في جواز التأخير على أن العقل يخصص به، وقد يكون العاقف يفتقر إلى فكرة طويلة بها يتوصل إلى الدليل العقلي المخصص، وهذا تأخير قد صح وثبت، فلا يعد في تأخير البيان اللفظي أيضًا، ولا يجيء من هذا كون ما في العقول كالحاصل الحاضر، لأن ما فيها لا يتوصل [إليه] إلا بعد فكرة، فالتأخير لابد منه.
وعول أيضًا على العلم الضروري بأن النبي عليه السلام كان يبين ما نزل عليه من الأحكام حالا بعد حال، بقدر الحاجة كما فعل في بيان عموم قوله:(والسارق والسارقة) من ذكر الحرز، ونصاب القطع، إلى غير ذلك من الأحكام التي تبين مراد الله سبحانه بما نزل عليه فيها. ولا معنى لإطنابنا نحن في هذا، قد بسطناه في بابه.
ومن طرق الفرق أيضًا بين الاستثناء والتخصيص أن الأستثناء لا يكون إلا بقرينة لفظية، وهي حرف إلا وأخواتها، والتخصيص يكون بقرينة حالية، ألا ترى أن من قال: سألت العلماء يعلم بقرينة الحال أنه ما أراد علماء سائر البلاد في أقطار الدنيا، وإن لم يكن أبان عن هذا المراد بنطق أضافه إلى هذه الصيغة.
ومن طرق الفرق أيضا، وقد تقدمت الإشارة إليه أن الاستثناء يدخل على النصوص، والتخصيص لا يدخل عليها، وقد [قدمنا] بيانه ومثاله.
[فصل في البدار لاعتقاد العموم في الصيغة الواردة]
قد تقدم الكلام في جواز تأخير البيان، وذكرنا أن من الناس من منع تأخير العموم عن مورد الخطاب، فأبو بكر الصيرفي ذهب إلى البدار لاعتقاد حمل الصيغة على الاستيعاب والاستغراق، والمعممون على خلافه في هذا.
وقد أغلظ أبو المعالي القول عليه، وأساء معه الأدب، وهو من أئمة الشافعية المشهورين، ولا يحسن أن ينسب إلى الغباوة أو العناد، مع إمكان تأويل مخرج لكلامه وإن بعد، مع كون المسألة لا تقدح (ص ١٢٦) في قاعدة من قواعد التوحيد ولا تتعلق بذلك. والذي اعتمد في الرد عليه هو أن يقال له: أنت تجوز تأخير البيان عن مورد الخطاب، والتخصيص بيان للخطاب، ومعنى التخصيص تبين أن المراد باللفظة العامة بعض ما شملته، والجمع بين تجويز أن يكون المراد بها بعض ما شملته، وبين اعتقاد أن المراد بها جميع ما شملته تناقض لا يصح اعتقاده، وهذا لا حيلة في الجواب عنه، ولكن إذا قال الرجل: لم أرد هذا وإنما أردت اعتقاد وجوب العمل به، لأن الصيغة تفيد الظن