هذا، ولم يعقبه باستثناء، ولا غيره صار نصا في التسعة، وإلى هذه الطريقة ذهب أبو المعالي واستنكر ما سواها.
والطريقة التي ذكر أنه لا يصير غليها لبيب هي المذهب الذي أشرنا إليه، وهو أن طائفة من الأصوليين ذهبوا إلى خلاف هذا المذهب الثاني الذي حكيناه عن بعضهم، ورأوا أن الكلمة الدالة على عدد ربما نطق بها فيما دونه، كقولنا: عشرة، فإنه ربما استعمل في عشرة ناقصة، وهؤلاء يرون أن الاستثناء قرينة لفظية دلت على المراد باللفظ المستثنى منه كما دل قوله:"لا تقتلوا الرهبان" على المراد بقوله: (فاقتلوا المشركين)، ولم يقدر قوله:"ولا تقتلوا الرهبان"، أن هذا اللفظ مع قوله:(فاقتلوا المشركين) ككلمة واحدة دالة على من سوى الرهبان، وهذا يصح مع القولب أن صيغة العموم تقتضي الاستيعاب اقتضاء الظواهر. وأما على مذهب من قال: إنها نص في الاستيعاب، فإن هذا الفرق والذي صورناه لا يتحقق، إذ قال: اقتلوا المشركين، لا تقتلوا الرهبان، فإن الصيغتين على أصل من يرى العموم نصا كاللفظة الدالة على عدد من يراها نصا في الدلالة على ذلك العدد.
وقد ذكر بين التخصيص والاستثناء طريقة أخرى في الفرق، وهي منعطفة على هذه، وذلك أنه قيل: الاستثناء لا يكون إلا متصلا، والتخصيص قد يكون منفصلا، وهذا صحيح، ولكن عليه ما قدمناه من كون الاستثناء كجزء من أجزاء الكلمة، ولا يصح (تأخير بعض أجزاء الكلمة، والتخصيص ليس بجزء من أجزاء الكلمة، فلهذا أمكن تأخيره، وهذا يتضح على القول بجواز) تأخير البيان عن وقت الحاجة. وأما من منع تأخير التخصيص عن مورد الخطاب، فإن يتعذر عن هذا بأن يقال: معنى تأخير البيان ليس بمعنى يرجع إلى اللسان، كما منعت تأخير الاستثناء لمعنى يرجع إلى اللسان، لأن العرب تقبح تأخير الاستثناء، فإذا قال القائل: رأيت القوم إلا زيدا، عدوه كالتهافت للكلام، وإذا قال: رأيت القوم، ثم قال بعد شهر منها: إني ما أردت بحديثي لكم إلا من سوى فلان وفلان، لم يعدوا هذا كلاما متهافتا، ولكني إنما منعت تأخير التخصيص من ناحية العقول، لأن الله واجب عليه استصلاح العباد، ومن الفساد تأخير البيان لهم.
وقد سبق منا نحن الجواب عن هذا، واستيفاء الأدلة التي يتمسك بها الفريقان، مانعو التأخير للبيان ومجيزوه.