وإذا علمت ما أخبرناك به من طريقة القاضي التي يطلب بها ضبط العدد الذي هو أقل ما يقع به العلم، فإنه يقطع على أن الأربعة لا يقع بهم العلم كما قدمناه، وإذا وقع له العلم بخمسة قطع على أصله أنه أول العدد، وإن سمع خبر ستة فوقع له العلم لم يقطع على أنهم أول العدد لجواز أن يكون لو سمع خمسة لوقع له العلم، وإذا انتفى وقوع العلم على عدد لم يقض بأنهم ليسوا بأقل العدد، لجواز أن يكون العلم إنما لم يقع لكونهم فيهم كذبة، أو كلهم كاذبون.
فقد تحصل من مذهبه أن وقوع العلم يصح أن يجعله معتبرا لإثبات هذا العدد الذي هو الأقل، ونفي العلم لا يجعله معتبرا لنفي كونه الأقل، لأن من شروط الخبر أن يكونوا عالمين بما أخبروا به، وقد يكون في هؤلاء كذبة. فإن كانوا من القلة بحيث يمكن أن يتواطؤوا على الكذب جوز أن يكون جميعهم كذبة، وإن كانوا من الكثرة بحيث لا يمكن هذا منهم، جوز أن تكون طائفة منهم يمكن أن تتواطأ على الكذب كذبت، وتبقى الطائفة الأخرى صادقة، ولكنها مقصرة عن أقل عدد التواتر، فلهذا لم يقع العلم. فاضبط مذهبه في اتخاذه وقوع العلم علما، وفي إضرابه عن اتخاذ انتفاء العلم علما.
وأما نحن فقد قدمنا طريقتنا التي نعرف بها الحق في هذا وفي غيره، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما.
[فصل في تقاسيم الأخبار من جهة متعلقاته]
قد كنا قدمنا تقاسيم الأخبار من ناحية طرقها والمخبرين بها، وهذا تقسيمها من ناحية متعلقاتها. فاعلم أنها تنقسم من هذه الجهة إلى ثلاثة أقسام:
- أحدها: القطع بالصدق.
- والثاني: القطع بالكذب.
- والثالث: التجويز للصدق والكذ ب.
وهذا القسم الثالث في التحقيق إنما يرجع إلى اعتقادات السامعين للخبر لا إلى كون الخبر صدقا في نفسه أو كذبا، لأن من قال: زيد قام، ولا علم عند السامع بصدقه أو كذبه، فخبره في نفسه لا يخلو أن يكون صدقا أو كذبا، وإنما وقع التردد من جهة السامع لا لكون الخبر يصح خلوه عن الصدق والكذب.
فإذا تقرر هذا فاعلم أن الأخبار يعلم صدقها عقلا، ويعلم صدقها سمعا، وكذلك يعلم كذبها عقلا، ويعلم أيضا سمعا.