فالذي يعلم من هذين القسمين من صدق أو كذب بالعقل إما أن يعلم بضرورة البداهة، كقول القائل إذا كان صادقا: الضدان لا يجتمعان، أو قوله إذا كان كاذبا: الضدان يجتمعان. ويعلم أيضا بضرورة الحس والمشاهدة قول القائل: فلان قد خجل، والسامع يرى ما رآه القائل من قرائن الخجل، أو يقول ذلك كذبا، فيعرف (ص ١٩٧) السامع أيضا كذبه.
وقد يستند العلم الضروري إلى العادة كقول القائل: أظلم الجو لما غابت الشمس، وإما أن يعلم من ناحية العقل الصدق والكذب من جهة الاستدلال كقول القائل: العالم محدث، إذا كان صادقا. وقول الآخر: بل هو قديم، إذا كان كاذبا.
وقد يعترض [على] هذا التقسيم بأن الصدق والكذب مستند إلى الدليل وإلى البداهة، سواء أخبر مخبر عن ذلك أو لم يخبر، فالخبر لم يفد العلم بالصدق أو الكذبن وأنه أفاده مما نسبنا هذه الأمور إليه من ضرورة أو استدلال. وهذا اعتراض صحيح، ولكن قصد القوم تقسيم متعلقات الأخبار التي يكتسب الخبر بها كونه صدقا أو كذبا، فهذا لا طائل تحت المناقشة فيه.
وقد ألحق أثمتنا بالنوع الذي يعرف بالاستدلال خبر الواحد إذا أخبر عن أمر يشاهده، وادعى على جماعة أهل تواتر لا يمكن تواطؤهم على الكذب أنهم شاهدوا ما شاهد، فلم ينكروا ذلك عليه، وهم سامعون لما قال، لا مانع يمنعهم من الإنكار، ولا عذر يقتضي السكوت عنه من تواطؤ أو اتفاق على غرض ما. وبهذا أثبتنا القطع بنوع من أنواع معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، كتكثير الماء، والطعام، وغير ذلك مما نقل أته جرى له في المحافل والمجامع. إذا قال الصاحب: كنت في غزاة كذا، فجرى للنبي عليه السالم بحضرتي وبحضرة سائرهم كذا وكذا، وأشار إلى عجب خارق للعادة، وزعم أن الجماعة شاهدوه كما شاهده، فلم ينكروا ذلك عليه، فإنا نقطع على صحة خبره، ولو أن القوم نطقوا كما نطق وأخبروا كما أخبر على حسب ما يخبر أهل التواتر، لوقع العلم الضروري لسامع خبرهم، ولا مطمع للفرق بين المسألتين من ناحية العقول، حتى يقال: لو وقع [العلم] عند سكوتهم الدال على تسليمهم الخبر [لوقع] العلم الاستدلالي عند نطقهم، وإنما يفترق ذلك من جهة العادة. وقد أخبرنا أن وقوع العلم الضروري عند سماع الخبر المتواتر بعادة اطردت، لا لأمر عقلي، وهذه العادة إنما اطردت مع نطق المخبرين لا مع سكوتهم، والعوائد لا تعلل، ولا يناقض بعضها ببعض.
إلى هذا أشار بعض أئمتنا، ولكني لا أرى ما رأوا من ذلك، بل أقول: إنه قد يقع العلم الضروري عند سكوت قوم عن الإنكار كما يقع عند نطقهم سواء بسواء، فلو أن رجلا