بقصدهما، ويقوى الصدق في نفسه قوة ما بحسب ما ظهر له من إمكان تطابقهما على الخبر، قبل أن يراهما، أو بعد هذا الإمكان، ويجد في النفس تجويزا لاتفاقهما عليه غلطا، إن كان ذلك مما يمكن في العادة، أو اتفاقهما على غرض وإن كان لم يتطابقا عليه.
فإذا انضاف إليهما ثالث بعد في نفسه وقوعهم في غرض واحد على جهة الاتفاق، والتواطؤ أيضا لكونهم عنده متباعدين بعضهم عن بعض، فلا يزال هكذا ونفسه تنهض إلى التصديق، وتشوف النفس إلى الأسباب التي أشرنا إلى كونها داعية للكذب تضعف حتى يمحي آثاره من النفس، فلا تقبل عليه النفس و [لا] تنعطف إلا بعد أن تعطف كما تعطف عن أمورها الطبيعية، التي يحس الإنسان فيها بالكلفة، وهذا عندي هو العلم الاستدلالي الواقع بالاختيار.
ثم يتكاثر عليه المخبرون بتفاوت أزمان واختلاف قرائن أحوال [حتى] يقطع العقل بأول وهلة على (ص ١٩٦) انتفاء الأسباب الاتفاقية كلها، كما أشرنا إليها، فيقع العلم الضروري حينئذ. ولو حاول السامع لمثل هذه الأخبار أن يعطف نفسه إلى تجويز الكذب فيها، أو يقدر إمكان التفاق تلك الأسباب التي أشرنا إليها لوجد نفسه آبية عن ذلك، غالبة له عليه، حتى لا يمكن مدافعتها عنه، وهذا هو العلم الضروري الذي لا يمكن الشك فيه ولا الارتياب. وإليه أشار الجمهور في النظر في انتفاء هذه الأسباب، وحسم مواد تشوف النفس إليها، وقع إليها اختلاف المذاهب، فاشار كل قوم إلى حالة من هذه الأحوال التي فصلناها، ووقف عند الحال التي بني عليها ولم يتعدها، وآخر تعداها فبنى مذهبه عليها.
وأنت إذا علمت هذا علمت أن قد تبلغ الأعداد إلى أن يمكن أن يقع العلم الضروري بخبرهم مرة، ومرة أخرى لا يقع، وعلمت أن من الكثرة ما يمكن أن يقع بخبرهم العلم مرة، ومرة لا يقع، وذلك أن [من] الأسباب التي أشرت إليها ما يقطع بأنه لا يجوز على مقدار من الكثرة قد تبلغ إلى حد عظيم من الانتشار والافتراق في الأزمان والأغراض والأسباب التي أشرنا إليها. ومنها ما يجوز على مقدار ما من الكثرة حتى تبقى النفس متشوقة إلى النظر في ارتفاع تلك الأسباب والأغراض تارة، وتنحسم عنها مواد التشوف أخرى.
هذا هو المسلك الحق في هذا الباب، وإليه ترجع المحققات من المذاهب التي نقلناها فيه. وأبو المعالي وإن كان أشار إلى اتخاذ هذا الأسلوب مذهبا له وطريقة، فإنما أضفناه إلينا ونسبناه إلى اختيارنا، لأنه كان مذهبا لنا مشهورا قبل أن نقف على كتابه هذا.