للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقطع أبو المعالي القول بأنهم ليسوا بحد يقع العلم بخبرهم فلابد، لاطراد العادة في الخمسة والستة أنهم قد يكذبون، وعلى هذا عول في الأربعة أيضا، وتمسك في الجميع بالعادة.

ولما قطع القاضي القول بعدد ينتفي عن خبره وقوع العلم، وتردد فيما زاد عليه، ورأى أنه لا سبيل إلى تحديد أقل العدد الذين يقع بهم العلم، أراك طريقة تعلم منها تحديد هذا العلم الذي هو الأقل، فقال: يسمع السامع خبر الأربعة فلا يقع له العلم لأجل ما قدمناه، ثم يسمع خبرا آخر زائدا عليهم، ويحس ما يقع في نفسه ويرجع إلى عقله، فيحكمه، فما دام يرى في نفسه تخالج الشكوك في صدق الخبر، فإنه لا يثبت له ذلك العدد أول عدد التواتر، حتى إذا زالت الشكوك، وانحسمت مواد التردد والتجويز عن نفسه ووقع له العلم اتخذ ذلك العدد مذهبا له في أنه أقل عدد يقع به العلم، ولا يقول له أن يخبر عدد مثله مرة أخرى، ولا يقع العلم لأن الكثرة الذين يقع بهم العلم لا يصح أن يقع بهم مرة، ومرة أخرى لا يقع، ولو صح هذا لجوزنا أن يخبر أهل بغداد يوما ما عن خبر ما ولا يقع بخبرهم العلم، وهذا معلوم بطلانه من جهة العادة.

وأبو المعالي ينكر هذه الطريقة، ويشير إلى أنه قد يختلف حال العدد باختلاف أحوال المخبرين، وأحوال الخبر في نفسه، فلا يمكن اتخاذ هذا الذي قاله القاضي قانونا في معرفة حد أقل التواتر.

والمذهب الحق عندي في هذا أن الأمر لا ينضبط، ولكن العاقل إذا سمع خيرا فإن نفسه (إنما يغلب عليها التشوف إلى تجويز تعمد الكذب على المخبر لغرض ما له في الخبر)، يقوي ظنها بصدقه تارة عند انتقاء الأغراض الحاملة له على الكذب [و] ضعف الظن بإذا شك في انتقائها]، وإذا انتفت كلها قوي الظن، ويتوسط الأمر بحسب توسطها واختلاف أقدارها، ولهذا رد الشرع شهادة العدل فيما بدت فيه أغراض ظاهرة، كشهادة لولده، أوعلى عدوه، حتى إذا انتفت هذه الأغراض كلها، ودينه يمنع أن يتساهل في ركوب الآثام قبل شهادته الشرعُ، وإذا لم يكن له دين، قوي التجويز لكذبه، وضعف الظن فلم يقبله.

وهكذا حال الكثرة، فإذا انضاف إلى الواحد آخر، وجاءا معا، وكان معروفين عند السامع بالتطابق عن أهوائها، والتعاون على أغراضها، لم يجد في نفسه ذاك النهوض في الظن. ولو جاءا مفترقين حينا بعد حين، بحيث يكون الظاهر عند السامع أنهما لم يتلاقيا، وعرفهما بأنهما غير متطابقين، ولا يعرف بعضها بعضا، فإنه يجد في نفسه نهوضا في الظن

<<  <   >  >>