قد كنا نحن قدمنا أن انتفاء التواطؤ والأسباب التي تحل محله شرط في وقوع العلم، ولكننا مع هذا لا نحيل أن يكون أمر عايشته الجماعة الكثيرة، ونقلوه عن أمر ننقله، وحمل على إشاعته يقع عند العلم، بل نقول، ولو لم يحملوا على نقله لنقوله إذا كانوا من الكثرة، والخبر في نفسه بحيث لا يمكن معه الكتمان، لو اتفق فيه الكتمان لهبة أو سبب ما لظهر الخبر عند زوال السبب فلا معنى لرد هذا شرطا في وقوع العلم، وإنما يكون الحمل والجبر سببا لاجتماع الكثرة على أمر لولاه لما اجتمعوا عليه، ومن تحسس إلى العادات، وتصور أحكام المشاهدات علم صحة ما نقلناه.
وأما القاضي فإنه قطع القول بأن الأربعة لا يقع العلم بخبرهم أصلا، واعتمد في هذا على أنهم عدد الشهود في الزنا، وقد جاء الشرع بطلبه القاضي بشهادتهم أن يبحث عن عدالتهم، وأمر الشارع بهذا أمرا عاما في كل عصر ومصر، وما ذاك إلا لأنهم ممن لا يقع العلم بخبرهم، ولم يُر حاكم قط قد زعم أنه استغنى عن البحث عن العدالة فيهم، لأنه وقع له العلم بصدقهم، فصار هذا أيضا كعادة مطردة فيهم، كما اطردت العادة بأنا نسمع دعوى المدعين، ويسمع ذلك القاضي في مجلس حكومته، ولم يقع لأحد من القضاة أو غيرهم العلم بصدق دعوى مدع، وما ذاك إلا لاطراد العادة أيضا يكون خبر الواحد لا يقع [به] العلم. وقدم حجة عند هؤلاء على من صار إلى وقوع العلم بخبر الواحد على ما لا قدمناه، ولو كان الأربعة يقع العلم بخبرهم لكان (ص ١٩٥) إذا شهد أربعة بالزنا عند قاض فلم يقع له العلم، فإنه لا يقبل شهادتهم لعلمه أنهم كاذبون، أو فيهم كذبة، وهذا خلاف الإجماع.
وهذه عدمة يعتمدوها القاضي مرورا منه على أصله، إذ من أصله أن الكثرة الذين يقع بهم العلم لا يصح قبول حتى يقع بهم مرة، ومرة لا يقع.
وقد وافق القاضي أبو المعالي على القطع بأن الأربعة لا يقع العلم بخبرهم، ولكنه استشعف حجة القاضي بالشهادة على الزنا، وقال: إن الشرع إذن للقاضي في الاستظهار بطلب شهادة خامس، حتى يدخل الخامس في جملة البينات. ومقتضى هذا على اعتلال القاضي أن يقطع القول بأن الخمسة لا يقع العلم بخبرهم كما لا يقع بخبر الأربعة، لأجل إذن الشرع بإلحاق خامس بأربعة في حكم البينة، وهو لا يقول بذلك، بل تردد في الخمسة، هل يقع العلم بخبرهم أم لا.