للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تتحرك ولا تسكن، فالمانعون لتكليف ما لا يطاق يمنعون هذا، فإن صوروا سؤالا يناقض هذا التأصيل الذي أصلناه بأن قيل: من دخل دارا تعديًا فخروجه عنها تعد أيضا، لأن التخطي في ملك الغير بغير إذن لا يجوز (ص ٨٩)، فهذا الإنسان نهي عن اللبث في هذه الدار، كما هو نُهي عن الخروج منها، لكون اللبث والخروج جميعا يتصرف في ملك الغير بغير إذن.

وقد ركب أبو شمر هذا المذهب، وصرح بأن مقامه في هذه الدار حرام، وخروجه عنها حرام، ونحو هذا المرمى رمى ابن الجبائي وأبو المعالي ورأيا أن الخروج ينسحب عليه حكم المعصية والعدوان والتأثيم، من قبل أن مبدأ هذا الفعل الذي صار كالضروري كان مكتسبا بمعصية مأثوما فيه، وهو دخول هذه الدار، ولولا هذا الدخول لما تورط بين هذين النقيضين اللذين لا انفكاك له منهما.

وصرح أبو المعالي بأنه غير منهي عنه، عن الخروج، وإن كان عاصيا فيه، لأن معصيته فيه مستندة إلى ما اكتسبه أولا من دخول هذه الدار، وحكم تلك المعصية الأولى منسحب على هذه الأخيرة، فصح ارتفاع النهي عن هذا مع إثبات المعصية فيه، كما صح كونه مأمورا به على جهة التنصل من المظالم، وامتثال الأمر برد الحقوق والخروج عنها إلى أربابها. قد تقدم في الصلاة في الدار المغصوبة كون الصلاة تعلق بها النهي على وجه، والأمر على وجه آخر، فهكذا هاهنا تعلق الامتثال بوجه، والمعصية بوجه آخر.

وركب ابن الجبائي هذا المركب في هذه المسألة، وإن كان قد استبعده في الدار المغصوبة، ورأى أن أكوان المصلي في الدار المغصوبة منهي عنها، فمن المحال أن يكون مأمورا بها. وجوابه في المسالتين ومركبه فيهما متناف.

وتمثل أبو المعالي في انسحاب هذا العدوان بغاصب المال، فإن توبته منه تسقط حق الله سبحانه عنه قطعا أو ظنا ـ على ما عرف من خلاف في قبول التوبة ـ هل مقطوع به أو مظنون، ولا تسقط تباعه الخلق في حجرهم عن أموالهم ومنعهم منها بالتوبة. فإن زعم على أن التخلص بغرم ما أتلف عليهم، وما ذلك إلا لأجل أن ما ورد نفسه فيه هناك منسحب حكمه على حال التوبة، وإن كان حال التائب كالمناقض لحال المصر، ولو يمثل في طريقته بقول الفقهاء: إن طلاق السكران يلزم، والحدود تقام عليه، وإن كان غير عاقل حين جنايته ما جنى لأجل أن شربه الخمر معصية مآلها زوال عقله، فزوال العقل كالمكتسب له، لما كان سببه منه، وإن كان على الحقيقة نفس زواله لا اكتساب له فيه، لكان التمثيل بهذا أثلج للصدور، لكون هذا التعليل متداولا على ألسنة من قال به من الفقهاء، ولكن الجناية

<<  <   >  >>