الموقعة الآن ليس كفعل تقضي مثلما تقضي زمن الغصب، بل هي فعل شرع فيه السكران كما شرع الغاصب في خروجه من الدار، وهذا التمثيل الذي صورنا أوضح من تمثيله.
والقاضي ابن الطيب في جملة المحققين ينكرون هذا الذي قاله أبو شمر، ويرونه تكليف ما لا يطاق، ويحيلون تكليف ما لا يطاق، وما هو من قبيل المحال حين التعبد، غير ملتفتين إلى مبدأ هذا المحال؛ هل هو مكتسب؟ والإنسان هو الموقع نفسه في هذا المحال الممتنع، أو غير مكتسب لمبدئه ولا موقع نفسه فيه؟ هذا مما لا يصح تكليفه على القول بمنع تكليف ما لا يطاق، لا سيما على أصل المعتزلة القائلين بأن القبح وصف نفسي، وصفات الأنفس لا تختلف باختلاف الصور.
وسبب الخلاف في هذه المسألة أنه قد علم أن تكليف الممكن المتأتي سائغ كتكليف الامتناع من دخول دار من غير إذن صاحبها، لأنه يمكن للإنسان أن يخالف هواه في دخولها ويؤثر طاعة الله فلا يدخلها، أو يغلبه هواه فيعصي الله بدخولها، فإيثار طاعة الله على ما أمكنه من اتباع هواه سبب مدحه وأجره، كما علم أن تكليف الممتنع الذي لا سبب للإنسان في كونه ممتنعا غير سائغ على القول بمنع ما لا يطاق كالقول: اقلب هذا الدار حيوانا، وأبطل حقيقة كونها مكانا.
حتى إذا وقعت صورة مشوبة وقع النزاع، مثل هذه المسألة التي نحن فيها، وذلك أن التعري من اللبث في الدار والخروج عنها محال لا يمكن، ولكن كان في وسع هذا الإنسان ألا يقع في هذا الممتنع المحال، بأن لا يدخل الدار أولا، فينشب فيما نشب فيه، تخيل قوم كون هذا الفعل كالمكتسب، فصرح أبو شمر بأنه محرم، وصرح الآخران بانسحاب حكم العدوان عليه، ولعل الجميع مرمى واحدا رموا، وإن اختلفت عباراتهم.
ورأى القاضي أن التعري عن الأمرين محال، فلا مبالاة بمبدئهما وسببهما، وقد قال بعض المتأخرين من الأشياخ: إن من كان داخل الكعبة لا يتوجه عليه الأمر بأن يولي وجهه شطر الكعبة، لكونه لا يمكنه أن يدبر بوجهه عن جميعها، وإنما (ص ٩٠) يمكنه الإدبار بوجهه إذا كان خارجاً عنها، فيصح أمره حينئذ، لما أمكن منه الموافقة والمخالفة، بخلاف من كان داخل الكعبة الذي لا يمكنه المخالفة، ولا يجد سبيلا إلى الموافقة.
وقد يشير إلى هذا مسائل تكلم عليها الفقهاء، وهي من أفطر في صوم التطوع إفطارا ضروريا، وإن كان سببه اختياريا كالمسافر يعطش لأجل سفره. وكذلك تكلم القوم على قطع التتابع في صيام الظهار بمثل هذا الإفطار الملحوظ بأن فيه شائبة من الاضطرار ومن