وأما الاستدلال فإنهم يقولون: قد أجمع على أن القرآن لا ينقل على المعنى، فكذلك السنة لأنهما جميعا وحي عن الله سبحانه، وأيضا فإن الأذان، والتشهد، وتكبيرة الإحرام جاء الشرع بمنع تغيير العبارة فيها، فكذلك يجب أن تكون أحاديث النبي عليه السلام.
ويجيب الآخرون عن هذا بأن هذا قياس من غير علة جامعة، وتلك قد قدمنا الأدلة على التعبد بإيراد ما سمع وشرع فيها، ولم يقم دليل على التعبد بإيراد لفظ النبي عليه السلام.
وأما الأخرون المجيزون لنقل الحديث بالمعنى فإنهم يحتجون أيضا بالكتاب والسنة والاستدلال.
فأما الكتاب فإن الله سبحانه ذكر معنى واحدا بعبارات مختلفة أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم كقوله عن أم موسى:(هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم)، وفي موضع آخر:(هل أدلكم على من يكفله)، وقال تعالى:(وألق عصاك)، وفي موضع آخر:(وأن ألق عصاك)، إلى أمثال ذلك مما يكثر تعداده في القرآن، فلولا أن المعنى إذا تساوى لا يكون اختلاف العبارة عنه كذبا ولا تحريفا، لم يقع ذلك في القرآن العزيز.
بهذا استدل البلخي، وأجابه الدقاق من أصحاب الشافعي بأن الله سبحانه يعلم ضمائر الناطقين ومقاصد المتكلمين علما لا يجوز فيه الغلط، وكذلك يعلم مضمون العبارات وحقائقها، وما يفهمه السامعون منها، فلهذا حسن في القرآن اختلاف العبارة عن المعنى الواحد. والرواة منا بخلاف ذلك في جواز الغلط والجهل عليهم، فلهذا منعوا.
وللبلخي أن يقول له: إنما كلامنا في تغيير اللفظ مع أمن الراوي من الغلط، وعلمه الضروري بأنه لم يغيرا لمعنى لما غير اللفظ، كقوله عليه السلام:"إذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون"، بدل قوله:" ... جالسا فصلوا جلوسا" إلى أمثال ذلك مما يعلم قطعا أنه لم يفسد تغيير اللفظ المعنى المراد ولا حرفه.
لكن قد يقال للبلخي: من الممكن أن تقول أم موسى هذا المعنى مرتين، وتختلف عبارتها فيه، فأخبر الله سبحانه عنها بالمجلسين جميعا، لكن هذا يفتقر إلى بسط، ويبعد تأويله في بعض المواضع على صفة قد يشير إليها.