"إلا" إذا قدر بمعنى استثنى، فإن هذا الفعل الذي هو استثنى ينصب ما بعده بحكم مقتضاه، سواء كان واقعا على موجب أو منفي، وقد فرقت النحاة بأسرهم بين الموجب والمنفي كما ستراه، وإجماعهم على التفرقة في أن "إلا" قد تصير الكثير قليلا.
(ص ١٢٤) وقد اعتمد من صحح استثناء الأكثر من الأقل على قوله تعالى: (قم الليل إلا قليلا* نصفه أو انقص منه قليلا* أو زد عليه)، فهذه الآية تضمنت استثناء الأكثر من الأقل، على قوله: وهو النصف، أو أكثر منه.
وأجيب عن هذا بأن المستثنى فيها على الحقيقة قوله تعالى:(إلا قليلا)، وما بعد ذلك كالمستأنف، وتقديره: قم نصفه، أو أكثر منه، فهو أعظم لأجرك، ويقوي هذا التأويل عند هؤلاء أن حذاق المجيزين لاستثناء الأكثر من الأقل يرونه كلاما مستهجنا ومستقبحا، وحاشا القرآن أن ينسب إليه كلمة مستهجنة.
واعتمد هؤلاء أيضًا على قله تعالى:(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين)، وقال في آية أخرى خبرا عن إبليس:(فبعزتك لأغينهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين)، فاستثنى مرة المخلصين، واستثنى مرة الغاوين، فإن كان الصنفان متساويين فهو استثناء النصف من النصف، وإن كان أحدهما أكثر من الآخر ففيه استثناء الأكثر من الأقل، والظاهر أن الغاوين أكثر، وهذا من أقوى ما يتمسك به هؤلاء.
وعندي أنه قد يقال فيه: ليس المراد هاهنا الإشارة إلى عدد مخصوص ولا إلى مقدار محصور، فيرعى فيه الأكثر والأقل، وإنما المراد هاهنا الإشارة إلى الجنس، فكأنه قال: لأغوينهم إلا المخلصين، من وجد من المخلصين، ومن تقرر وجوده مخلصا، وكذلك المعنى في الغاوين. وبالجملة إن كان المراد التعرض إلى صفة الإخلاص أو إلى الإغواء، أو إشارة إلى أن الإخلاص مانع لي منهم، إن هذا قد يخرج عن هذا الباب الذي نحن فيه. وقد أنشد هؤلاء أيضا
أدوا التي نقصت تسعين من مائة ... ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا
وأجيب عن هذا بأن هذا ليس فيه صيغة الاستثناء، وإنما ذكر فيه انتقاص شيء من شيء، على أنه لا يتحقق أنه منسوب إلى من يحتج بقوله، وهو أيضا قد ينخرط في سلك الأشعار اللغزية التي يتكلف ألفاظها لإخفاء معانيها.