(ص ٢٠] العقل هو العلم وتابعه على هذا الشيخ الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني. وقال الجبائي: هو العلم الداعي إلى الحسن، والصارف عن القبيح، وقالت الخوارج هو أن يعقل عن الله سبحانه أمره ونهيه، وقال بعض الناس هو ما يميز خير الخيرين، وشر الشرين. وهل هذه المذاهب متقاربة المرمى؟ أما الأشعري فجرى على تحديد الشيء باسمه الذي هو أوضح من الاسم الذي سئل، عنه وهذا كحد العلم بالمعرفة، وقد تقرر أن أهل اللغة يطلقون هذه العبارة على معنى واحد، فيقولون عقلت هذا الشيء، وعلمته، وعرفته، وفهمته، ودريته، وزكنته، إلى غير ذلك من الألفاظ، فاقتضى هذا أن العقل هو العلم، كما أن العلم هو المعرفة.
وأما الجبائي فسلك هذا المسلك، لكنه التفت إلى اشتقاق هذه التسمية، وهي مشتقة من المنع، ألا تراهم يقولون عقل بطنه (... ت)، وعقلت البعير، ويسمون عصبة الإنسان عاقلة لما كانت تمنع، فبمقتضى هذا لا يسمى من العلوم عقلا إلا ما يحصل فيه معنى هذا الاشتقاق، وهي العلوم المانعة، ولهذا لا يسمى علم الله عقلا، إذ هو المتقدس عن المانع، وإنما سميناه حكيما وإن كان في الحكمة معنى العقل، لأن هذه اللفظة مأخوذة من حكمة الدابة، وهي الحديدة التي فيها، اتباعًا للشرع في إطلاق هذه التسمية، وعلى هذا المعنى جرت بقية المذاهب التي ذكرناها، لأن فيها معنى المنع.
وأما القاضي فإنه ذكر أن العقل بعض العلوم الضرورية، واختلفت إشارته إلى تعيين هذه العلوم، فقال مرة: هي العلوم الضرورية بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات، وأشار مرة إلى التحديد، فقال مرة هو العلم باستحالة اجتماع الضدين، وأن العلوم لا تنفك عن ثبوت أو انتفاء، وأن الموجود لا ينفك عن حدث أو قدم، والعلم بمجاري العادات ككون الجبال لا تسير، والبحار لم تفجر، وأن الخبر لا ينفك أن يكون صدقا أو كذبا.
ونازعه أبو المعالي في بعض هذه الوجوه، فقال: الأخرس على الحقيقة من لا كلام بقلبه، ولا لسانه، ولكنه إذا انصاف إليه الضمير لم يعقل معنى الخبر، ومن لا يعقل أصل الشيء لا يعرف أقسامه وأحكامه، وقد جزم القاضي القول في كون هذا غير مكلف، إذا لم يتأت إفهامه بالإشارة، وردوا القول في كونه عاقلا.
وأولى من هذا الاعتراض [إنه] قد يستثنى عن أفراد عن القسم بالذكر، لأن قوله: من أركان العقل أن يعلم أن المعلوم لابد أن يكون ثابتا أو منتفيا، لم يرد بهذا تعيين [ذلك] وإنما أراد أن يعلم أن هذا من حكم المعلوم على الجملة، وكون الخبر لا ينفك عن الصدق