وتزعم الشافعية أن حقيقة الافتراق إنما يكون في الأجسام والجواهر التي تقبل الأكوان: الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، وأما أقوالنا فأعراض لا تقبل اجتماعا ولا افتراقا، فإن أطلق عليها ذلك فاستعارة وتشبيه، وتأويل الحديث على مثل هذه الاستعارة والتشبيه (ص ١٨٢) مستكره مستبعد لا يقبل ولا يسمع. وأما المتبايعان فهما متفاعلان، وإنما يسميان بذلك إذا حصل الفعل، كالمتضاربين والمتشاتمين، فإنهما إنما يسميان بذلك إذا حصل الضرب والشتم، فحقيقة المتبايعين من وقع بينهما تبايع، والتبايع هو انعقاد البيع، فالحمل على ذلك ليس بحمل على الاستعارة والمجاز كما صنعتهم في حملكم الافتراق على الأقوال مع ذكر المكان في بعض طرق الحديث.
فهذا هو منشأ الخلاف في هذا التأويل، والالتفات إلى الاحتفاظ على حقيقة لفظة والتسامح في أخرى هو سبب التنازع كما أريناك.
وهاهنا مثل هذه الطريقة من التأويل أيضا، وذلك أنه وقع في بعض طرق الحديث:"ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقبله"، فيقول أصحابنا: لو كان من حق كل واحد من المتبايعين الفسخ في المجلس من غير اختيار صاحبه لم يكن لقوله عليه السلام: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقبله" معنى، لأنه لا يفتقر حينئذ إلى الاستقالة التي تكون برضا صاحبه.
فيقول أصحاب الشافعي: المراد هنا: لا يحل له أن يفر من صاحبه ويفارقه مخالفة أن يفسخ عليه بحق ما له من خيار المجلس. فيجابون عن ذلك أيضا بأن حمل الفسخ بالخبر على أن المراد بلفظ الاستقالة تعسف واستكراه في التأويل، وقد أنكرتم علينا مثله في حملنا الافتراق على الأقوال، فتساوت الأقدام. وقد نبهنا نحن في كتابنا "المعلم" على هذه الطريقة، فهذا هو المقصد الذي يليق بكتابنا هذا، وإليه أشار أبو المعالي.
وقد رأيت أبا الفرج من أصحابنا يشير غلى طريق آخر في التأويل، ويقول: المراد بالحديث أن قبول الاستقالة والفسخ في المجلس سنة، وبعد الافتراق من المجلس تفضل. وفي هذا التأويل من الاستعباد ما نبهنا عليه، من حمل الفسخ جبرا على الاستقالة التي تكون بالمرضاة، وأبو الفرج إنما ذكر هذا جوابا في جملة أجوبة.
وقد كان القاضي يحيى بن أكثم يتأول الحديث بالافتراق كما قلناه، ويعضد تأويله