فيه، وهو بيع الرطب بالتمر، وتضمنت أيضا مزابنة وهو بيع معلوم بمجهول، لأن الرطب إنما يباع بخرصه تمرا، وتضمنت النسيئة فيما لا يجوز النساء فيه، وهو بيع الطعام باطلعام إلى أجل. وقد عفا الشرع عن هذه الوجوه المحرمة، وأخرج هذه البيعة عن إجرائها على هذه الأصول المقررة، إما لنفي الضرر، وإما للرفق والإحسان، واتباع معروف بمعروف على ما عرف في كتب الفقه من الاختلاف في علة جواز ذلك، وسبب استثنائه من الأصول المقررة.
وأبو حنيفة لا يرى هذا بيعا مستثنى من الأصول كما تخيله الإمامان، وإنما يقدر أن المعري وهب ثمرات نخله، والهبة لا تجب عنده إلا بالقبض، وأما بمجرد القول فلا تستقل في اللزوم، ولا يجبر الواهب على تسليم ما وهب، فإذا وهبه ثمرات نخيله، وكان من حقه أن يرتجعها إذا شاء، فإن التمر الذي يبذله عوض ما ارتجع من الرطب إنما هو هبة ثانية وليست بمعاوضة عن الأولى، حتى يقدر فيها من وجوه التحريم ما قدره الإمامان مالك والشافعي رضي الله عنهما.
وهذا التأويل فيه تعسف ظاهر، وكان لاحقا بما كنا فيه من المسائل التي تقدمت هذه المسألة، لأن الخبر ورد بأنه "نهى عن المزابنة، وأرخص في بيع العربة بخرصها ... " الحديث، وتصدير الراوي مقاله بأنه نهى عن بيع المزابنة، معناه أنه نهى عن معاوضة وتبايع فيه مزابنة، وهذا المنهي عنه لا امتراء ولا شك في كونه عقدا وبيعا، ثم بنى على ما قاله هذا وأرخص في بيع العربة، فيسمى ما يصنع فيها بيعا، ولا بيع عند أبي حنيفة كما قررناه، ففي تأويله تعطيل لفظة البيع، وإبطال معناها، ومنافرة بين هذا العطف والمعطوف عليه، وقطع ما بينهما من الارتباط، لأن المراد أن هذه المعاوضة في العربة مزابنة، وكان الواجب لا تجوز لما صدر الراوي به كلامه من أنه صلى الله عليه وسلم هى عن المزابنة، لكنه أخبر بأن ههذ المعاوضة مستثناة من بياعات المزابنة، ورخصة من الرخص سامح الشرع بها.
ولا خفاء عمن أنصف أن هذا هو المفهوم من سياق هذا الكلام، لا ما تأوله أصحاب أبي حينفة، وقد رأيت الطحاوي تخيل في الاعتذار عن هذا بأن ذكر قولين فيه:
- أحدهما: أن الرخصة إنما ساقها الراوي هاهنا، لأجل أن الواهب مندوب إلى أن لا يرجع في هبته، لكن هذا رخص فيه في العرية للضرورة أو للرفق.
- والثاني: أن سنة المعاوضة وحقيقتها نقل ملك إلى ملك على جهة المقابلة، هذا بهذا، والثمن والمثمون هاهنا من عند واحد، وهو المعري، لأجل أن الرطب وهبه ثم ارتجعه ثم وهبه الثمن، فكلاهما ملكه وماله، فحقيقة المعاوضة غير حاصلة فيه.
وهذا الذي اعتذر به ليس بشيء، أما اعتذاره بأن الرخصة في إرجاع الهبة، فالسياق يبطل هذا التأويل، وقد ذكرنا أنه صدر الحديث بأن قال:"نهى عن المزابنة"، ثم عطف