للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كل علم يوجد بالعاقل، ولكن يشاركه فيه من ليس بعاقل، فإن هذا العلم لا يعد ركنا من أركان العقل، ولهذا لم يعد العلم بوجود اللذة والألم، والعلم بالنفس، والميز بين الكثرة والقلة من أركان العقل، لما كانت البهائم ومن ليس بعاقل من الناس تحصل له هذه العلوم عندي للنظر فيه مجال.

وهذا مسلم لو قلنا إن هذه العلوم المشار إليها هي جملة العقل، لأنا لو قلنا ذلك اقتضى ولابد كون هذه العلوم ليست من العقل، لوجدنا إياها فيمن ليس بعاقل، ولا يصح أن توجد العلة مع عدم حكمها، لكنا نقول: العقل جملة علوم، فلا يبعد أن تكون البهائم تحصل على بعض هذه العلوم، ولا تكون عاقلة لفقدانها ما فقدت من بقية العلوم، وهذا واضح لكن قد نقول من انتصر لطريقة القاضي إن جملة العلوم التي يشار إليها بأنها عقل لا يمكن افتراقها حتى يوجد منها بعض ويفقد بعض، فلو كانت هذه التي يتكلم عليها معدودة في العقل لما صح وجودها فيمن ليس بعاقل. وهذا نهاية ما يقال في هذه الطريقة، وهي مفتقرة إلى نظر يدق، ويتشبث بالنظر في قوانين من أحكام العلل، وطريقة القاضي تقتضي أن العقل مما لا يعلل، ولا يحد كما تقدم بيانه.

وأما من حكينا عنه أنه حد العقل بأنه ما لا يصح الاستدلال إلا مع وجوده، فإن طريقته أكشف بمعنى العقل من سائر الطرق التي ذكرنا، لولا ما تعقب عليه من أن النظر ما يفتقر أن يبني على علوم ضرورية ليست من العقل، وهذا التعقب لازم إن أراد من حكينا حده الإشارة إلى كل نظر.

وأما طريقة الجبائي ومن ذكرنا أنه يسلك مسلكه فإنما يرد بالدليل الذي حكينا عن القاضي، وذكرنا أنه اشتمل على نقض سائر المذاهب، وهذا المذهب من جملتها، ويختص برد آخر، وهو ما قدمناه، من إسناد التحسين والتقبيح إلى السمع، ولا أحد يقول إن مدارك السمع تعد ركنا من أركان العقل.

وقد حكينا سلوكه هذا المسلك، وتقييده العقل بالميز بين خير الخيرين، وشر الشرين، فإنما دعاه لذلك اعتقاده أن البهائم تميز بين خير وشر، فتنفر عن ذابحها، وتحن لعالفها، لكنها مع هذا يقصر ميزها عن ترجيح بين خير وخير، وشر وشر، وهذه الحدود كلها مطلوبة، والطريقة (الحد ...) أن الإنسان يميز ما بينه وبين الجماد، فيحد الجماد [بأنه ما] لا حس له ولا إدراك، ولا حياة، ثم يرقى عن هذه الطبقة فيميز بينه وبين البهائم، وإن كانت حساسة دراكة، فإنه باينها بمعارف، وميز، وفكرة يستنبط بها حقيقة ما يفكر فيه، ثم يفرق بينه وبين الطفل الرضيع (...)، فيجد أحدهما قد كان قابلا بما اختص به

<<  <   >  >>