ولم يغسل بعد للقرب حتى دخلت الدواجن فأكلته، والقول بأن ما ذكر إنما يلزم منه نسخ التلاوة فيجوز أن تكون التلاوة منسوخة مع بقاء الحكم- كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما- ليس بشيء لأن ادعاء بقاء حكم الدال بعد نسخه يحتاج إلى دليل وإلا فالأصل أن نسخ الدال يرفع حكمه، وما نظر به لولا ما علم بالسنة. والإجماع لم يثبت به، ثم الذي نجزم به في حديث سهلة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يرد أن يشبع سالما خمس رضعات في خمسة أوقات متفاصلات جائعا لأن الرجل لا يشبعه من اللبن رطل ولا رطلان فأين تجد الآدمية في ثديها قدر ما يشبعه هذا محال عادة، فالظاهر أن معدود خمس فيه إن صح أنها من الخبر المصات، ثم كيف جاز أن يباشر عورتها بشفتيه فلعل المراد أن تحلب له شيئا مقدار خمس رضعات فيشربه- كما قال القاضي- وإلا فهو مشكل، وقد يقال: هو منسوخ من وجه آخر لأنه يدل على أن الرضاع في الكبر يوجب التحريم لأن سالما كان إذ ذاك رجلا وهذا مما لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة فإن مدة الرضاع التي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرا عند الإمام الأعظم، وسنتان عند صاحبيه ومستندهما قوي جدا، وإلى ذلك ذهب الأئمة الثلاثة، وعن مالك: سنتان وشهر، وفي رواية أخرى شهران، وفي أخرى سنتان وأيام، وفي أخرى ما دام محتاجا إلى اللبن غير مستغن عنه، وقال زفر: ثلاث سنين، نعم قال بعضهم: خمس عشرة سنة، وقال آخرون: أربعون سنة، وقال داود: الإرضاع في الكبر محرم أيضا، ولا حدّ للمدة- وهو مروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها- وكانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت أختها أم كلثوم أو بعض بنات أختها أن ترضعه، وروى مسلم عن أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنهن خالفن عائشة في هذا، وعمدة من رأى رأيها في هذا الباب خبر سهلة مع أن الآثار الصحيحة على خلافه،
فقد صح مرفوعا وموقوفا «لارضاع إلا ما كان في حولين»
وفي الموطأ وسنن أبي داود عن يحيى بن سعيد «أن رجلا سأل أبا موسى الأشعري فقال: إني مصصت من امرأتي ثديها لبنا فذهب في بطني فقال أبو موسى: لا أراها إلا قد حرمت عليك فقال ابن مسعود: انظر ما تفتي به الرجل فقال أبو موسى: فما تقول أنت؟ فقال ابن مسعود: لا رضاع إلا في حولين، فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم، وفيه عن ابن عمر جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال:
كانت لي وليدة فكنت أصيبها فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها فدخلت عليها فقالت: دونك قد والله أرضعتها قال عمر:
أرجعها وأت جاريتك فإنما الرضاعة رضاعة الصغر،
وروى الترمذي- وقال حديث صحيح- من حديث أم سلمة أنه قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يحرم من الرضاع إلا فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام»
وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود يرفعه «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم» (١)
حتى أن عائشة نفسها رضي الله تعالى عنها روت ما يخالف عملها،
ففي الصحيحين عنها أنها قالت: «دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: يا عائشة من هذا؟ فقلت: أخي من الرضاعة فقال: يا عائشة انظرن من إخوانكم إنما الرضاعة من المجاعة»
واعتبر مرويها دون رأيها لظهور غفلتها فيه وعدم وقوع اجتهادها على المحز، ولهذا قيل: يشبه أنها رجعت كما رجع أبو موسى لما تحقق عندها النسخ وحمل كثير من العلماء حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم، وجعلوا أيضا العفو عن مباشرة العورة من الخواص.
هذا ومن غرائب ما وقفت عليه مما يتعلق بهذه الآية عبارة من مقامة للعلامة السيوطي رحمه الله تعالى سماها- الدوران الفلكي على ابن الكركي- وفيها يخاطب الفاضل المذكور بما نصه: ماذا صنعت بالسؤال المهم الذي دار
(١) بالزاي والراء اهـ منه.