لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق أخبار علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره عالم بما لا يعلمه سواه انتهى.
وهو مبني على كون وجه الإعجاز عند علماء العربية كون القرآن في مرتبة الأعلى من البلاغة، وكون المقصود من الآية إثبات القرآن كله وبعضه من الله تعالى، وحينئذ لا يمكن وصف الاختلاف بالكثرة لأنه لا يكون الاختلاف حينئذ إلا بأن يكون البعض منه معجزا والبعض غير معجز، وهو اختلاف واحد فلذا جعل وجدوا متعديا إلى مفعولين أولهما كَثِيراً، وثانيهما اخْتِلافاً بمعنى مختلفا، وإليه يشير قوله: لكان الكثير منه مختلفا وإنما جعل اللازم على تقدير كونه من عند غير الله تعالى كون الكثير مختلفا مع أنه يلزم أن يكون الكل مختلفا اقتصارا على الأقل كما في قوله تعالى: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر: ٢٨] وهو من الكلام المنصف، وبهذا يندفع ما أورد من أن الكثرة صفة الاختلاف والاختلاف صفة للكل في النظم، وقد جعل صفة الكثرة والكثرة صفة الكثير، لأنا لا نسلم أن الكثرة صفة الاختلاف بل هما مفعولا «وجدوا» وكذا ما أورد من أنه يفهم من قوله: لكان بعضه بالغا حد الإعجاز ثبوت قدرة غيره تعالى على الكلام المعجز وهو باطل لأنا لا نسلم ذلك فإن المقصود أن القرآن كلّا وبعضا من الله تعالى أي البعض الذي وقع به التحدي- وهو مقدار أقصر سورة منه ولو كان بعض من أبعاضه من غيره تعالى- لوجدوا فيه الاختلاف المذكور، وهو أن لا يكون بعضه بالغا حد الإعجاز- قاله بعض المحققين- وقال بعضهم: لا محيص عن الإيراد الأخير سوى أن يحمل الكلام على الفرض والتقدير أي لو كان فيه مرتبة الإعجاز ففي البعض خاصة على أن يكون ذلك القدر مأخوذا من كلام الله تعالى كما في الاقتباس ونحوه- إلا أنه لا يخفى بعده، وإلى تفسير الاختلاف بالتفاوت بلاغة وعدم بلاغة ذهب أبو علي الجبائي إلى هذا ونقل عن الزمخشري أن في الآية فوائد: وجوب النظر في الحجج والدلالات، وبطلان التقليد، وبطلان قول من يقول: إن المعارف الدينية ضرورية، والدلالة على صحة القياس، والدلالة على أن أفعال العباد ليست بخلق الله تعالى لوجود التناقض فيها انتهى.
ولا يخفى أن دلالتها على وجوب النظر في الجملة وبطلان التقليد للكل، وقول من يقول: إن المعارف الدينية كلها ضرورية إما على صحة القياس على المصطلح الأصولي فلا، وإما تقرير الأخير- على ما في الكشف- فلأن اللازم كل مختلف من عند غير الله تعالى على قولهم: ان لو عكس لولا ولو كان أفعال العباد من خلقه لكانت من عنده بالضرورة، وكذبت القضية أو بعض المختلف من عند غير الله تعالى على ما حققه الشيخ ابن الحاجب، والمشهور عند أهل الاستدلال فيكون بعض أفعال العباد غير مخلوقة له تعالى ويكفي ذلك في الاستدلال إذ لا قائل بالفرق بين بعض وبعض إذا كان اختياريا، وأجاب فيه بأن اللازم كل مختلف هو قرآن من عند غير الله تعالى على الأول، وحينئذ لا يتم الاستدلال، وذكر أن معنى وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ تعالى عند الجماعة ولو كان قائما بغيره تعالى ولا مدخل للخلق في هذه الملازمة، وأنت تعلم أنه غير ظاهر الإرادة هنا. وكذا استدل بالآية على فساد قول من زعم أن القرآن لا يفهم إلا بتفسير الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو الإمام المعصوم- كما قال بعض الشيعة- وَإِذا جاءَهُمْ أي المنافقين- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك وأبي معاذ- أو ضعفاء المسلمين- كما روي عن الحسن، وذهب إليه غالب المفسرين- أو الطائفتين كما نقله ابن عطية- أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أي مما يوجب الأمن والخوف أَذاعُوا بِهِ أي أفشوه، والباء مزيدة، وفي الكشاف يقال: أذاع الشر وأذاع به، ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة وهو أبلغ من أذاعوه لدلالته على أنه يفعل نفس الحقيقة كما في نحو- فلان يعطي ويمنع- ولما فيه من الإبهام والتفسير، وقيل: الباء لتضمن الإذاعة معنى التحديث وجعلها بمعنى مع والضمير للمجيء مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه.