والكلام مسوق لبيان جناية أخرى من جنايات المنافقين، أو لبيان جناية الضعفاء إثر بيان جناية المنافقين وذلك أنه إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها فقالوا: أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يخبرهم به، ولا يكاد يخلو ذلك عن مفسدة، وقيل: كانوا يقفون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف فيذيعونه فينشر فيبلغ الأعداء فتعود الإذاعة مفسدة، وقيل: الضعفاء يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنون غير معلوم الصحة فيذيعونه قبل أن يحققوه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين، وفيه إنكار على من يحدث بالشيء قبل تحقيقه،
وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة مرفوعا «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع»
والجملة عند صاحب الكشف معطوفة على قوله تعالى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ، وقوله سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ اعتراض تحذيرا لهم عن الإضمار لما يخالف الظاهر، فإن في تدبر القرآن جارا إلى طاعة المنزل عليه أي جار، وقيل: الكلام مسوق لدفع ما عسى أن يتوهم في بعض المواد من شائبة الاختلاف بناء على عدم فهم المراد ببيان أن ذلك لعدم وقوفهم على معنى الكلام لا لتخلف مدلوله عنه، وذلك أن ناسا من ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بما أوحي إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة يذيعونه من غير فهم لمعناه ولا ضبط لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحملونه عليه من المحامل، وعلى تقدير الفهم قد يكون ذلك مشروطا بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثره المتوقع فيكون ذلك منشأ لتوهم الاختلاف- ولا يخلو عن حسن- غير أن روايات السلف على خلافه، وأيّا ما كان فقد نعى الله تعالى ذلك عليهم، وقال سبحانه: وَلَوْ رَدُّوهُ أي ذلك الأمر الذي جاءهم إِلَى الرَّسُولِ صلّى الله عليه وسلّم وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وهم كبائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم البصراء في الأمور، وهو الذي ذهب إليه الحسن وقتادة وخلق كثير.
وقال السدي وابن زيد وأبو علي الجبائي: المراد بهم أمراء السرايا والولاة، وعلى الأول المعول لَعَلِمَهُ أي لعلم تدبير ذلك الأمر الذي أخبروا به الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي يستخرجون تدبيره بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكائده، أو لو ردوه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن ذكر، وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلم الذي يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون وما يذرون، أو لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ صلّى الله عليه وسلّم وإلى كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وقالوا: نسكت حتى نسمعه منهم ونعلمه هل مما يذاع أو لا يذاع لعلم صحته، وهل هو مما يذاع أو لا هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطون من الرسول وأولي الأمر أي يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم، أو لو عرضوه على رأيه عليه الصلاة والسلام مستكشفين لمعناه وما ينبغي له من التدبير، وإلى أجلة صحبه رضي الله تعالى عنهم لعلم الرادون معناه وتدبيره وهم الذين يستنبطونه ويستخرجون علمه وتدبيره من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن تشرف بالعطف عليه، والتعبير بالرسالة لما أنها من موجبات الرد. وكلمة- من- إما ابتدائية والظرف لغو متعلق بيستنبطونه، وإما تبعيضية أو بيانية تجريدية والظرف حال، ووضع الموصول موضع الضمير في الاحتمالين الأخيرين للإيذان بأنه ينبغي أن يكون القصد بالرد استكشاف المعنى واستيضاح الفحوى، والاستنباط في الأصل استخراج الشيء من مأخذه- كالماء من البئر، والجوهر من المعدن- ويقال للمستخرج: نبط بالتحريك ثم تجوز به فأطلق على كل أخذ وتلق وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ خطاب للطائفة المذكورة آنفا بناء على أنهم ضعفة المؤمنين على طريقة الالتفات، والمراد من الفضل والرحمة شيء واحد أي لولا فضله سبحانه عليكم ورحمته بإرشادكم إلى سبيل الرشاد الذي هو الرد إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإلى أولي الأمر لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ وعملتم بآرائكم