بالمجاهدون- وأوردوا بهذا العنوان دون عنوان الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه، وقيده بما قيده مدحا لهم وإشعارا بعلة استحقاقهم لعلو المرتبة مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود كما قيل، وقيل: إنما أوردوا بعنوان الجهاد إشعارا بأن القعود كان عنه ولكن ترك التصريح به هناك رعاية لهم في الجملة، وقدم الْقاعِدُونَ على- المجاهدين- ولم يؤخر عنهم ليتصل التصريح بتفضيلهم بهم، وقيل: للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء من جهة القاعدين لا من جهة مقابليهم، فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد، لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر، وعليه قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرعد: ١٦] إلى غير ذلك، وأما قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩] فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته ملكة لصلة المفضول.
وأنت تعلم أنه لا تزاحم في النكات وأنه قد يكون في شيء واحد جهة تقديم وجهة تأخير، فتعتبر هذه تارة وتلك أخرى، وإنما قدم سبحانه وتعالى هنا ذكر الأموال على الأنفس وعكس في قوله عز شأنه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة: ١١١] لأن النفس أشرف من المال فقدم المشتري النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد وأخّر البائع تنبيها على أن المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها إلا في فائدة، وعلى ذلك النمط جاء أيضا قوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ في سبيله بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ من المؤمنين غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ دَرَجَةً لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها، وهذا تصريح بما أفهمه نفي المساواة فإنه يستلزم التفضيل إلى أنه لم يكتف بما فهم اعتناء به وليتمكن أشد تمكن، ولكون الجملة مبينة وموضحة لما تقدم لم تعطف عليه، وجوز أن تكون جواب سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل: كيف وقع ذلك التفضيل؟ فقيل: فَضَّلَ اللَّهُ إلخ واللام كما أشرنا إليه في الجمعين للعهد ولا يأباه كون مدخولها وصفا- كما قيل- إذ كثيرا ما ترد أل فيه للتعريف كما صرح به النحاة، ودَرَجَةً منصوب على المصدر لتضمنها التفضيل لأنها المنزلة والمرتبة وهي تكون في الترقي والفضل، فوقعت موقع المصدر كأنه قيل: فضلهم تفضيلة، وذلك مثل قولهم: ضربته سوطا أي ضربة، وقيل: على الحال أي ذوي درجة، وقيل: على التمييز، وقيل: على تقدير حذف الجار أي بدرجة، وقيل: هو واقع موقع الظرف أي في درجة ومنزلة، وقوله تعالى: وَكُلًّا مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإفادة القصر تأكيدا للوعد، وتنوينه عوض عن المضاف إليه أي كل واحد من الفريقين المجاهدين والقاعدين وَعَدَ اللَّهُ
المثوبة الْحُسْنى وهي الجنة- كما قال قتادة وغيره- لا أحدهما فقط، وقرأ الحسن- وكل- بالرفع على الابتداء، فالمفعول الأول- وهو العائد في جملة الخبر- محذوف أي وعده، وكأن التزام النصب في المتواترة لأن قبله جملة فعلية وبذلك خالف ما في- الحديد- والْحُسْنى على القراءتين هو المفعول الثاني، والجملة اعتراض جيء به تداركا لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول وقوله سبحانه:
وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ عطف على ما قبله، وأغنت أل عن ذكر ما ترك على سبيل التدريج من القيود، وإنما لم يعتبر التدريج في ترك ما ذكر مع القاعدين أولا بأن يترك من المؤمنين فقط، ويذكر غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ في الآية الأولى ويتركهما معا في الآية الثانية، بل تركهما دفعة واحدة عند أول قصد التدريج قيل: لأن قيد غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ كان بعد السؤال كما يشير إليه سبب النزول.
وفي بعض أخباره أن ابن أم مكتوم لما نزلت الآية جعل يقول: أي رب أين عذري، أي رب أين عذري؟؟ فنزل ذلك فانسدت باب الحاجة إليه، وقنع السائل بذكره مرة فأسقط مع ما معه الساقط لذلك القصد دفعة، ولا كذلك ما