يتولى قبض أرواحهم بنفسه ويحشرهم إلى نفسه عز وجل، ولما لم يكن هؤلاء الظالمين من أحد الصنفين الأخيرين نسب سبحانه توفيهم إلى الملائكة، وقيد ذلك بحال ظلمهم أنفسهم فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ الطبيعة وَساءَتْ مَصِيراً لما أن نار البعد والحجاب بها موقدة إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وهم كما قال بعض العارفين: أقوياء الاستعداد الذين قويت قواهم الشهوية والغضبية مع قوة استعدادهم فلم يقدروا على قمعها في سلوك طريق الحق ولم يذعنوا لقواهم الوهبية والخيالية فيبطل استعدادهم بالعقائد الفاسدة فبقوا في أسر قواهم البدنية مع تنور استعدادهم بنور العلم وعجزهم عن السلوك برفع القيود وَالنِّساءِ أي القاصرين الاستعداد عن درك الكمال العلمي وسلوك طريق التحقيق الضعفاء القوى، قيل: وهم البله المذكورون في خبر «أكثر أهل الجنة البله» وَالْوِلْدانِ أي القاصرين عن بلوغ درجة الكمال لفترة تلحقهم من قبل صفات النفس لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً لعدم قدرتهم وعجزهم عن كسر النفس وقمع الهوى وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لعدم علمهم بكيفية السلوك فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ بمحو تلك الهيئات المظلمة لعدم رسوخها وسلامة عقائدهم وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا عن الذنوب ما لم تتغير الفطرة غَفُوراً يستر بنور صفاته صفات النفوس القابلة لذلك وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عن مقار النفس المألوفة يَجِدْ فِي الْأَرْضِ أي أرض استعداده مُراغَماً كَثِيراً أي منازلا كثيرة يرغم فيها أنوف قوى نفسه وَسَعَةً أي انشراحا في الصدر لسبب الخلاص من مضايق صفات النفس وأسر الهوى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ أي مقامه الذي هو فيه مهاجرا إلى الله بالتوجه إلى توحيد الذات وَرَسُولِهِ بالتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ أي الانقطاع فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ حسبما توجه إليه وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فيستر بصفاته صفات من توجه إليه ويرحم من انقطع دون الوصول بما هو أهله، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ثم إنه سبحانه بعد أن أمر بالجهاد ورغب في الهجرة أردف ذلك ببيان كيفية الصلاة عند الضرورات من تخفيف المئونة ما يؤكد العزيمة على ذلك، فقال سبحانه وتعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم أيّ سفر كان، ولذا لم يقيد بما قيد به المهاجرة، والشافعي رضي الله تعالى عنه يخص السفر بالمباح- كسفر التجارة- والطاعة- كسفر الحج- ويخرج سفر المعصية- كقطع الطريق والإباق- فلا يثبت فيه الحكم الآتي لأنه رخصة، وهي إنما تثبت تخفيفا وما كان كذلك لا يتعلق بما يوجب التغليظ لأن إضافة الحكم إلى وصف يقتضي خلافه فساد في الوضع، ولنا إطلاق النصوص مع وجود قرينة في بعضها تشعر بإرادة المطلق وزيادة قيد عدم المعصية نسخ على ما عرف في موضعه، ولأن نفس السفر ليس
بمعصية إذ هو عبارة عن خروج مديد وليس في هذا شيء من المعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده كما في السرقة، أو مجاوره كما في الإباق فيصلح من حيث ذاته متعلق الرخصة لإمكان الانفكاك عما يجاوره كما إذا غصب خفا ولبسه فإنه يجوز له أن يمسح عليه لأن الموجب ستر قدمه ولا محظور فيه، وإنما هو في مجاوره وهو صفة كونه مغصوبا وتمامه في الأصول.
والمراد من الأرض ما يشمل البر والبحر، والمقصود التعميم أي إذا سافرتم في أي مكان يسافر فيه من بر أو بحر فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج وإثم أَنْ تَقْصُرُوا أي في أن تقصروا، والقصر خلاف المد يقال: قصرت الشيء إذا جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه، فمتعلق القصر إنما هو ذلك الشيء لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصر، فقوله تعالى: مِنَ الصَّلاةِ ينبغي على هذا أن يكون مفعولا لتقصروا ومِنَ زائدة حسبما نقله أبو البقاء عن الأخفش القائل بزيادتها في الإثبات، وأما على تقدير أن تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفا والجار والمجرور في موضع الصفة- على ما نقله الفاضل المذكور عن سيبويه- أي شيئا من الصلاة فينبغي أن يصار إلى