[البقرة: ٢٢٩] بل قد يقال إن الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته وفي حق ما يتعلق به من الصلوات وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر فكل ما ورد منه صلّى الله عليه وسلّم من القصر في حال الأمن وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف وبالضرب في المدة المعينة بيان لإجمال الكتاب كما قاله شيخ الإسلام، وقال بعضهم: إن القصر في الآية محمول على قصر الأحوال من الإيماء وتخفيف التسبيح والتوجه إلى أي وجه وحينئذ يبقى الشرط على ظاهر مقتضاه المتبادر إلى الأذهان، ونسب ذلك إلى طاوس والضحاك.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: قصر الصلاة إن لقيت العدو وقد حانت الصلاة أن تكبر الله تعالى وتخفض رأسك إيماء راكبا كنت أو ماشيا، وقيل: إن قوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ إلخ متعلق بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله.
فقد أخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال:«سأل قوم من التجار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلّى الله عليه وسلّم فصلى الظهر فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في إثرها فأنزل الله تعالى بين الصلاتين إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً فنزلت صلاة الخوف»
ولعل جواب الشرط على هذا محذوف أيضا على طرز ما تقدم، ونقل الطبرسي عن بعضهم أن القصر في الآية بمعنى الجمع بين الصلاتين وليس بشيء أصلا. وقرأ أبيّ كما قال ابن المنذر: فأقصروا من الصلاة أن يفتنكم، والمشهور أنه كعبد الله أسقط إِنْ خِفْتُمْ فقط، وأيا ما كان فإن أَنْ يَفْتِنَكُمُ في موضع المفعول له لما دل عليه الكلام بتقدير مضاف كأنه قيل: شرع لكم ذلك كراهة أَنْ يَفْتِنَكُمُ إلخ فإن استمرار الاشتغال بالصلاة لاقتدار الكافرين على إيقاع الفتنة، وقوله تعالى: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً
إما تعليل لذلك باعتبار تعلله بما ذكر، أو تعليل لما يفهم من الكلام من كون فتنتهم متوقعة فإن كمال العداوة من موجبات التعرض بالسوء، وعَدُوًّا كما قال أبو البقاء: في موضع أعداء، وقيل: هو مصدر على فعول مثل الولوع والقبول، ولَكُمْ حال منه، أو متعلق بكان.
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ بيان لما قبله من النص المجمل في مشروعية القصر بطريق التفريع وتصوير لكيفيته عند الضرورة التامة، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق التجريد، وتعلق بظاهره من خص صلاة الخوف بحضرته عليه الصلاة والسلام كالحسن بن زيد، ونسب ذلك أيضا لأبي يوسف، ونقله عنه الجصاص في كتاب الأحكام، والنووي في المهذب، وعامة الفقهاء على خلافه فإن الأئمة بعده صلّى الله عليه وسلّم نوابه وقوّام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: ١٠٣] وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ثعلبة بن زهدم قال: «كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، ثم وصف له ذلك فصلوا كما وصف ولم يقضوا، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكره أحد منهم وهم الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم» وهذا يحل محل الإجماع، ويرد ما زعمه المزني من دعوى النسخ أيضا فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي أردت أن تقيم بهم الصلاة فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ بعد أن جعلتهم طائفتين ولتقف الطائفة الأخرى تجاه العدو للحراسة ولظهور ذلك ترك وَلْيَأْخُذُوا أي الطائفة المذكورة القائمة معك أَسْلِحَتَهُمْ مما لا يشغل عن الصلاة كالسيف والخنجر وعن ابن عباس أن الآخذة