ومنها أن قولهم: إنما نزل لخلاص معشر الناس يريدون به أن آدم عليه السلام لما عصى أوثق سائر ذريته في حبالة الشيطان وأوجب عليهم الخلود في النار فكان خلاصهم بقتل المسيح وصلبه والتنكيل به وذلك دعوى لا دلالة عليها، هب أنا سلمناها لهم لكن يقال: أخبرونا مم هذا الخلاص الذي تعنى الإله الأزلي له وفعل ما فعل بنفسه لأجله؟
ولم خلصكم؟ وممن خلصكم؟ وكيف استقل بخلاصكم دون الأب والروح والربوبية بينهم؟ وكيف ابتذل وامتهن في خلاصكم دون الأب والروح؟ فإن زعموا أن الخلاص من تكاليف الدنيا وهمومها أكذبهم الحس، وإن كان من تكاليف الشرع وأنهم قد حط عنهم الصلاة والصوم مثلا أكذبهم المسيح والحواريون بما وضعوه عليهم من التكاليف، وإن زعموا أنهم قد خلصوا من أحكام الدار الآخرة فمن ارتكب محرما منهم لم يؤاخذ أكذبهم الإنجيل والنبوات إذ يقول المسيح في الإنجيل: إني أقيم الناس يوم القيامة عن يميني وشمالي فأقول لأهل اليمين: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم قبل تأسيس الدنيا، وأقول لأهل الشمال: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى العذاب المعدّ لكم قبل تأسيس العالم، السادس أن قولهم: وتجسد من روح القدس باطل بنص الإنجيل إذ يقول: متى في الفصل الثاني منه، إن يوحنا المعمداني حين عمد المسيح جاءت روح القدس إليه من السماء في صفة حمامة وذلك بعد ثلاثين من عمره.
السابع أن قولهم: إن المسيح نزل من السماء وحملت به مريم وسكن في رحمها مكذب بقول لوقا الإنجيلي إذ يقول في قصص الحواريين في الفصل الرابع عشر منه: إن الله تعالى هو خالق العالم بما فيه وهو رب السماء والأرض لا يسكن الهياكل ولا تناله أيدي الرجال ولا يحتاج إلى شيء من الأشياء لأنه الذي أعطى الناس الحياة، فوجودنا به وحياتنا وحركاتنا منه، فقد شهد لوقا بأن الباري وصفاته لا تسكن الهياكل ولا تناله الرجال بأيديها، وهذا ينافي كون الكلمة سكنت في هيكل مريم وتحولت إلى هيكل المسيح، الثامن أن قولهم: إنه بعد أن قتل وصلب قام من بين الأموات وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه من الكذب الفاحش المستلزم للحدوث، التاسع أن قولهم: إن يسوع هذا الرب الذي صلب وقتل مستعد للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء بمنزلة قول القائل:
لألفينك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادا
إذ زعموا أنه في المرة الأولى عجز عن خلاص نفسه حتى تم عليه من أعدائه ما تم فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم في المرة الثانية، العاشر أن قولهم: ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الذنوب فيه مناقضة لأصولهم، وذلك أن اعتقاد النصارى أنه لم تغفر خطاياهم بدون قتل المسيح، ولذلك سموه جمل الله تعالى الذي يحمل عليه الخطايا، ودعوه مخلص العالم من الخطيئة فإذا آمنوا بأن المعمودية الواحدة هي التي تغفر خطاياهم وتخلص من ذنوبهم فقد صرحوا بأنه لا حاجة إلى قتل المسيح لاستقلال المعمودية بالخلاص والمغفرة فإن كان التعميد كافيا للمغفرة فقد اعترفوا أن وقوع القتل عبث وإن كانت لا تحصل إلا بقتله فما فائدة التعميد وما هذا الإيمان؟ فهذه عشرة وجوه كاملة في ردّ تلك الأمانة وإظهار ما لهم فيها من الخيانة، ومن أمعن نظره ردّها بأضعاف ذلك. وقال أبو الفضل المالكي بعد كلام:
بطلت أمانتهم فمن مضمونها ... ظهرت خيانتها خلال سطورها
بدؤوا بتوحيد الإله وأشركوا ... عيسى به، فالخلف في تعبيرها
قالوا: بأن إلههم عيسى الذي ... ذر الوجود على الخليقة كلها
خلق أمه قبل الحلول ببطنها ... ما كان أغنى ذاته عن مثلها