المحجوبون إليهم من اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول، أما إنهم لم يقولوا بالتجسيم فلما تقرر عندهم من أن الحق سبحانه هو الوجود المحض الموجود بذاته القائم بذاته المتعين بذاته، وكل جسم فهو صورة في الوجود المنبسط على الحقائق المعبر عنه بالعماء متعينة بمقتضى استعداد ماهية المعدومة ولا شيء من الوجود المجرد من الماهية المتعين بذاته بالصورة المتعينة في الوجود المنبسط بمقتضى الماهية المعدومة فلا شيء من الجسم بالوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته، وتنعكس إلى لا شيء من الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته بجسم وهو المطلوب، وأما إنهم لم يقولوا بالعينية، فلأن الحق تعالى هو ما علمت من الوجود المحض، إلخ، والمخلوق هو الصورة الظاهرة في الوجود المنبسط على الحقائق المتعين بحسب ماهيته المعدومة ولا شيء من المجرد عن الماهية المتعين بذاته بالمقترن بالماهية المتعين بحسبها، ومما يشهد لذلك قول الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة من الفتوحات في حضرة البديع بعد بسط: وهذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق وإنما ظهر في الوجود الحق إذ لو كان عين الحق ما صح كونه بديعا، وقوله في هذا الباب أيضا في قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام: ٥٩] انفرد سبحانه بعلمها ونفى العلم عن كل ما سواه. فأثبتك في هذه الآية وأعلمك أنك لست هو إذ لو كنت هو لعلمت مفاتح الغيب بذاتك، وما لا تعلمه إلا بموقف فلست عين الموقف، وكذا قال غير واحد، وقال الشيخ شرف الدين إسماعيل بن سودكين في شرح التجليات نقلا عن الشيخ قدس سره أيضا: لما ظهرت الممكنات بإظهار الله تعالى لها وتحقق ذلك تحققا لا يمكن أن يزيل هذه الحقيقة أبدا فبقي متواضعا لكبرياء الله خاشعا له وهذه سجدة الأبد وهي عبارة عن معرفة العبد بحقيقته.
ومن هنا يعلم حقيقة
قوله سبحانه:«كنت سمعه وبصره» الحديث،
ولما لاح من هذا المشهد لبعض الضعفاء لائح قال: أنا الحق فسكر وصاح ولم يتحقق لغيبته عن حقيقته انتهى، وأما أنهم لم يقولوا بالاتحاد فلأن الاتحاد إما بصيرورة الوجود المحض المجرد المتعين بذاته وجودا مقترنا بالماهية المعدومة متعينا بحسبها أو بالعكس، وذلك محال بوجهيه لأن التجرد عن الماهية ذاتي للحق تعالى والاقتران بها ذاتي للممكن وما بالذات لا يزول.
وفي كتاب المعرفة للشيخ الأكبر قدس سره إذا كان الاتحاد مصيّر الذاتين واحدة فهو محال لأنه إن كان عين كل منهما موجودا في حال الاتحاد فهما ذاتان وإن عدمت العين الواحدة وثبتت الأخرى فليست إلا واحدة، وقال في كتاب الياء وهو كتاب ألهو الاتحاد محال، وساق الكلام إلى أن قال: فلا اتحاد البتة لا من طريق المعنى ولا من طريق الصورة، وقال في الباب الخامس من الفتوحات خطابا من الحق تعالى للروح الكلي: وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بالأسرار الإلهية إذ لا طاقة لك بحمل مشاهدتها، إذ لو عرفتها لاتحدت الإنية واتحاد الانية محال، فمشاهدتك لذلك محال، هل ترجع إنية المركب البسيط؟ لا سبيل إلى قلب الحقائق، وأما إنهم لم يقولوا بالحلول فلأنهم فسروا الحلول تارة بأنه الحصول على سبيل التبعية، وتارة بأنه كون الموجود في محل قائما به، ومن المعلوم أن الواجب تعالى- وهو الوجود المحض القائم بذاته المتعين كذلك- يستحيل عليه القيام بغيره.
قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الثاني والتسعين ومائتين من الفتوحات: نور الشمس إذا تجلى في البدر يعطي من الحكم ما لا يعطيه من الحكم بغير البدر لا شك في ذلك، كذلك الاقتدار الإلهي إذا تجلى في العبد يظهر الأفعال عن الخلق فهو وإن كان بالاقتدار الإلهي، لكن يختلف الحكم لأنه بواسطة هذا المجلى الذي كان مثل المرآة لتجليه، وكما يعلم عقلا أن القمر في نفسه ليس فيه من نور الشمس شيء وأن الشمس ما انتقلت إليها بذاتها وإنما كان لها مجلى، كذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه وإنما هو مجلى له وخاصة ومظهر له انتهى.