للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعالى المسلمين بهذه الآية أن لا يكافئوا كفار مكة بما سلف منهم، وأن يعدلوا في القول والفعل هُوَ راجع إلى العدل الذي تضمنه الفعل، وهو إما مطلق العدل فيندرج فيه العدل (١) الذي أشار إليه سبب النزول، وإما العدل مع الكفار أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي أدخل في مناسبتها لأن التقوى نهاية الطاعة وهو أنسب الطاعات بها فالقرب بينهما على هذا مناسبة الطاعة للطاعة، ويحتمل أن يكون أقربيته على التقوى باعتبار أنه لطف فيها فهي مناسبة إفضاء السبب إلى المسبب وهو بمنزلة الجزء الأخير من العلة، واللام مثلها في قولك: هو قريب لزيد للاختصاص لا مكملة فإنه بمن أو إلى.

وتكلف الراغب في توجيه الآية فقال: فإن قيل: كيف ذكر سبحانه أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وأفعل إنما يقال في شيئين اشتركا في أمر واحد لأحدهما مزية وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا وهو من العدالة؟ قيل:

إن أفعل وإن كان كما ذكرت فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء في نفسه قطعا لكلامه وإظهارا لتبكيته فيقال لمن اعتقد مثلا في زيد فضلا- وإن لم يكن فيه فضل ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمرا أفضل منه- اخدم عمرا فهو أفضل من زيد، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: ٥٩] وقد علم أن لا خير فيما يشركون، والجملة في موضع التعليل للأمر بالعدل، وصرح لهم به تأكيدا وتشديدا، وأمر سبحانه بالتقوى بقوله جلّ وعلا: وَاتَّقُوا اللَّهَ إثر ما بين أن العدل أقرب لها اعتناء بشأنها وتنبيها على أنها ملاك الأمر كله إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال فيجازيكم بذلك، وقد تقدم نظير هذه الآية في النساء، ولم يكتف بذلك لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء نائرة الغيظ، وقيل: لاختلاف السبب، فإن الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود، وذكر بعض المحققين وجها لتقديم القسط هناك وتأخيره هنا، وهو أن آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ فيها بالقيامة لله تعالى لأنه أردع للمؤمنين، ثم ثني بالشهادة بالعدل فجيء في كل معرض بما يناسبه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الواجبات والمندوبات ومن جملتها العدل والتقوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ جملة مستأنفة مبينة لثاني مفعول وَعَدَ المحذوف كأنه قيل: أي شيء وعده؟

فقيل لهم: مغفرة إلخ.

ويحتمل أن يكون المفعول متروكا والمعنى قدم لهم وعدا وهو ما بين بالجملة المذكورة، وجوز أن تكون مفعول وعد باعتبار كونه بمعنى قال، أو المراد حكايته لأنه يحكى بما هو في معنى القول عند الكوفيين، ويحتمل أن يكون القول مقدرا أي وعدهم قائلا ذلك لهم أي في حقهم فيكون إخبارا بثبوته لهم وهو أبلغ، وقيل: إن هذا القول يقال لهم عند الموت تيسيرا لهم وتهوينا لسكرات الموت عليهم.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا القرآنية التي من جملتها ما تليت من النصوص الناطقة بالأمر بالعدل والتقوى، وحمل بعضهم الآيات على المعجزات التي أيد الله تعالى بها نبيه صلّى الله عليه وسلّم أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي ملابسو النار الشديدة التأجج ملابسة مؤبدة، والموصول مبتدأ أول، واسم الإشارة مبتدأ ثان وما بعده خبره، والجملة خبر الأول، ولم يؤت بالجملة في سياق الوعيد كما أتي بالجملة قبلها في سياق الوعد قطعا لرجائهم، وفي ذكر حال الكفرة بعد حال المؤمنين كما هو السنة السنية القرآنية وفاء بحق الدعوة، وتطييبا لقلوب المؤمنين


(١) هكذا الأصل «فيه العدل مع الكفار الذي» إلخ ولا معنى له مع ما سيأتي بعد.

<<  <  ج: ص:  >  >>