العناد على طريق البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة، فليس القصد إلى الإخبار وكذا كل خبر يخاطب به علام الغيوب يقصد به معنى سوى إفادة الحكم أو لازمه، فليس قوله ردا لما أمر الله تعالى به ولا اعتذارا عن عدم الدخول رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي هارون عليه السلام وهو عطف على نَفْسِي أي لا يجيبني إلى طاعتك ويوافقني على تنفيذ أمرك سوى نَفْسِي وَأَخِي ولم يذكر الرجلين اللذين أنعم الله تعالى عليهما وإن كانا يوافقانه إذا دعا لما رأى من تلون القوم وتقلب آرائهم فكأنه لم يثق بهما ولم يعتمد عليهما.
وقيل: ليس القصد إلى القصر بل إلى بيان قلة من يوافقه تشبيها لحاله بحال من لا يملك إلا نفسه وأخاه، وجوز أن يراد- بأخي- من يؤاخيني في الدين فيدخلان فيه ولا يتم إلا بالتأويل بكل مؤاخ له في الدين، أو بجنس الأخ وفيه بعد، ويجوز في أَخِي وجوها أخر من الإعراب: الأول أنه منصوب بالعطف على اسم- إن- الثاني أنه مرفوع بالعطف على فاعل أَمْلِكُ للفصل، الثالث أنه مبتدأ خبره محذوف، الرابع أنه معطوف على محل اسم- إن- البعيد لأنه بعد استكمال الخبر، والجمهور على جوازه حينئذ، الخامس أنه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأي الكوفيين، ثم لا يلزم على بعض الوجوه الاتحاد في المفعول بل يقدر للمعطوف مفعول آخر أي وأخي إلا نفسه، فلا يرد ما قيل: إنه يلزم من عطفه على اسم- إن- أو فاعل أَمْلِكُ أن موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان إلا نفس موسى عليه السلام فقط، وليس المعنى على ذلك كما لا يخفى، وليس من عطف الجمل بتقدير ولا يملك أخي إلا نفسه كما توهم، وتحقيقه أن العطف على معمول الفعل لا يقتضي إلا المشاركة في مدلول ذلك ومفهومه الكلي لا الشخص المعين بمتعلقاته المخصوصة فإن ذلك إلى القرائن فَافْرُقْ بَيْنَنا يريد نفسه وأخاه عليهما الصلاة والسلام، والفاء لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله، وقرىء «فافرق» بكسر الراء وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي الخارجين عن طاعتك بأن تحكم لنا بما نستحقه، وعليهم بما يستحقونه كما هو المروي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهم، وقال الجبائي: سأل عليه السلام ربه أن يفرق بالتبعيد في الآخرة بأن يجعله وأخاه في الجنة ويجعلهم في النار، وإلى الأول ذهب أكثر المفسرين، ويرجحه تعقيب الدعاء بقوله تعالى: قالَ فَإِنَّها فإن الفاء فيه لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء فكان ذلك إثر الدعاء ونوع من المدعو به،
وقد أخرج ابن جرير عن السدي قال: إن موسى عليه السلام غضب حين قال له القوم ما قالوا فدعا- وكان ذلك عجلة منه عليه السلام عجلها- فلما ضرب عليهم التيه ندم فأوحى الله تعالى عليه فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ
والضمير المنصوب عائد إلى الأرض المقدسة أي فإنها لدعائك مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها ولا يملكونها، والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد، ومثله قول امرئ القيس يصف فرسه:
يريد إني فارس لا يمكنك أن تصرعيني، وجوز أبو علي الجبائي- وإليه يشير كلام البلخي- أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر أَرْبَعِينَ سَنَةً متعلق- بمحرمة- فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبدا فلا يكون مخالفا لظاهر قوله تعالى:
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة لكن- لا- بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها، بل بعضهم ممن بقي حسبما
روي أن موسى عليه السلام سار بمن بقي من بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة، وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض عليه السلام، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد،
وقيل: لم يدخلها أحد ممن قال: لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً وإنما دخلها مع موسى عليه السلام النواشئ من