ومن الغريب أنه نقل عن أبيّ رضي الله تعالى أنه قرأ- والسرق والسرقة- بترك الألف وتشديد الراء، فقال ابن عطية: إن هذه القراءة تصحيف لأن السارق والسارقة قد كتبا في المصحف بدون الألف، وقيل في توجيهها: إنهما جمع سارق وسارقة، لكن قيل: إنه لم ينقل هذا الجمع في جمع المؤنث، فلو قيل: إنهما صيغة مبالغة لكان أقرب، واعترض- الملحد- المعري على وجوب قطع اليد بسرقة القليل، فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار
تحكم: ما لنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار
فأجابه- ولله دره- علم الدين السخاوي بقوله:
عز الأمانة: أغلاها وأرخصها ... ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري
وفي الأحكام لابن عربي أنه كان جزاء السارق في شرع من قبلنا استرقاقه، وقيل: كان ذلك إلى زمن موسى عليه الصلاة والسلام ونسخ، فعلى الأول شرعنا ناسخ لما قبله، وعلى الثاني مؤكد للنسخ فَمَنْ تابَ من السرّاق إلى الله تعالى مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ الذي هو سرقته، والتصريح بذلك لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته وَأَصْلَحَ أمره بالتفصي عن التبعات بأن يرد مال السرقة إن أمكن أو يستحل لنفسه من مالكه أو ينفقه في سبيل الله تعالى إن جهله، وقيل: المعنى وفعل الفعل الصالح الجميل بأن استقام على التوبة كما هو المطلوب منه فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع فلا يسقطه التوبة عندنا لأن فيه حق المسروق منه، ويسقطه عند الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه، ولا يخفى ما في هذه الجملة من ترغيب العاصي بالتوبة، وأكد ذلك بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهو في موضع التعليل لما قبله، وفيه إشارة إلى أن قبول التوبة تفضل منه تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أو لكل أحد يصلح له، واتصاله بما قبله على ما قاله الطبرسي: اتصال الحجاج، والبيان عن صحة ما تقدم من الوعد والوعيد، وقال شيخ الإسلام: المراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى- على ما سيأتي- من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه أي ألم تعلم أن الله تعالى له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما اشتملا عليه إيجادا وإعداما إحياء وإماتة إلى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته، والجار والمجرور خبر مقدم، ومُلْكُ السَّماواتِ مبتدأ، والجملة خبر أَنَّ وهي مع ما في حيزها سادّ مسدّ مفعولي «تعلم» عند الجمهور، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم، وقوله تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ إما تقرير لكون ملكوت السماوات والأرض له سبحانه، وإما خبر آخر- لأن- وكان الظاهر
لحديث «سبقت رحمتي غضبي»
تقديم المغفرة على التعذيب، وإنما عكس هنا لأن التعذيب للمصر على السرقة، والمغفرة للتائب منها، وقد قدمت السرقة في الآية أولا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق، أو لأن المراد بالتعذيب القطع، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله تعالى، والأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، فجيء به على ترتيب الوجود أو لأن المقام مقام الوعيد، أو لأن المقصود وصفه تعالى بالقدرة، والقدرة في تعذيب من يشاء أظهر من القدرة في مغفرته لأنه لا إباء في المغفرة من المغفور، وفي التعذيب إباء بين وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على ما ذكر من التعذيب والمغفرة، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها، ووجه الإظهار كالنهار يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ خوطب صلّى الله عليه وسلّم بعنوان الرسالة للتشريف والإشعار بما يوجب عدم الحزن، والمراد بالمسارعة في الشيء الوقوع فيه بسرعة ورغبة، وإيثار كلمة فِي على- إلى- للإيذان بأنهم مستقرون في الكفر لا يبرحون، وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه