أي ضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه-.
وقال الزجاج: فِيها هُدىً أي بيان للحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وَنُورٌ أي بيان أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام حق، ولعل تعميم المهدي إليه كما في كلام ابن عباس أولى، ويندرج فيه اندراجا أوليا ما ذكره الزجاج من الحكم، وإطلاق النور على ما في التوراة مجاز، ولعل إطلاقه على ذلك دون إطلاقه على القرآن بناء على أن النور مقول بالتشكيك، وقد يقال: إن إطلاقه على ما به بيان أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم- بناء على ما قال الزجاج- باعتبار كون الأمر المبين متعلقا بأول الأنوار الذي لولاه ما خلق الفلك الدوار صلّى الله عليه وسلّم، وحينئذ يكون الفرق بين الإطلاقين مثل الصبح ظاهرا، والظرف خبر مقدم، وهُدىً مبتدأ، والجملة حال من التَّوْراةَ أي كائنا فيها ذلك، وكذا جملة يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ في قول إلا أنها حال مقدرة، والأكثرون على أنها مستأنفة مبينة لرفعة رتبة التوراة وسمو طبقتها، والمراد من النبيين من كان منهم من لدن موسى إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام على ما رواه ابن أبي حاتم عن مقاتل، وكان بين النبيين عليهما السلام ألف نبي.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن المراد بهم نبينا صلّى الله عليه وسلّم ومن قبله من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، وعلى هذا بني الاستدلال بالآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة، والمراد يحكم بأحكامها النبيون الَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة أجريت على النبيين- كما قيل- على سبيل المدح، والظاهر لهم، ونظر فيه ابن المنير بأن المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه، والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم، ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقتصر على كونه رجلا مسلما فإن أقل متبعيه كذلك، ثم قال: فالوجه- والله تعالى أعلم- أن الصفة قد تذكر لتعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما تذكر تنويها بقدر موصوفها، وعلى هذا الأسلوب جرى وصف الأنبياء عليهم السلام بالصلاح في غير ما آية تنويها بمقدار الصلاح إذ جعل صفة للأنبياء عليهم السلام، وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته، وكذلك قيل في قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: ٧] ، فأخبر سبحانه عن الملائكة المقربين بالإيمان تعظيما لقدره، وبعثا للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا، كيف لا؟! وهم- عند ربهم- كما في الخبر، ثم قال جل وعلا: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني من البشر لثبوت حق الأخوة في الإيمان بين القبيلتين، فلذلك- والله تعالى أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به، ولقد أحسن القائل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف، وحسان الناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام بقوله:
ما إن مدحت محمدا بمقالتي ... لكن مدحت مقالتي بمحمد
والإسلام- وإن كان من أشرف الأوصاف، إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حكمه- إلا أن النبوة أشرف وأجل لاشتمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز وفي كلام العرب الفصيح، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول على العكس، ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله:
شمس ضحاها هلال ليلتها ... در مقاصيرها زبرجدها
فنزل عن الشمس إلى الهلال، وعن الدر إلى الزبرجد فمضغت الألسن عرض بلاغته ومزقت أديم صنعته؟ فعلينا