للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعن مجاهد أنهم الذين جاؤوا مع جعفر رضي الله تعالى عنه مسلمين وهم سبعون رجلا اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيرى الراهب، وأبرهة، وإدريس، وأشرف، وتمام، وقثم، ودريد، وأيمن، والظاهر العموم على طرز ما تقدم ذلِكَ أي كونهم أقرب مودة للذين آمنوا بِأَنَّ مِنْهُمْ أي بسبب أن منهم قِسِّيسِينَ وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم. والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشيء إذا تتبعه بالليل سموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب، وقيل: القس مثلث الفاء تتبع الشيء وطلبه ومنه سمي عالم النصارى قسا بالفتح وقسيسا لتتبعه العلم. وقيل: قص الأثر وقسه بمعنى. وقال قطرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم وقد تكلمت به العرب وأجروه مجرى سائر كلماتهم وقالوا في المصدر قسوسة (١) وقسيسة وفي الجمع قسوس وقسيسون وقساوسة كمهالبة، وكان الأصل قساسسة إلا أنه كثرت السينات فأبدلوا إحداهن واوا. وفي مجمع البيان نقلا عن بعضهم أن النصارى ضيعت الإنجيل وأدخلوا فيه ما ليس منه وبقي من علمائهم واحدا على الحق والاستقامة يقال له قسيسا فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس وَرُهْباناً جمع راهب كراكب وركبان وفارس وفرسان ومصدره الرهبة والرهبانية، وقيل: إنه يطلق على الواحد والجمع، وأنشد فيه قول من قال:

لو عاينت (٢) رهبان دير في قلل ... لأقبل الرهبان يعدو ونزل

وجمع الرهبان واحدا كما في القاموس رهابين ورهابنة ورهبانون، والترهب التعبد في صومعة، وأصله من الرهبة المخافة، وأطلق الفيروزابادي. والجوهري التعبد ولم يقيداه بالصومعة،

وفي الحديث «لا رهبانية في الإسلام»

والمراد بها كما قال الراغب الغلو في تحمل التعبد في فرط الخوف. وفي النهاية هي من رهبنة النصارى وأصلها من الرهبة الخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب فنفاها النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإسلام ونهى المسلمين عنها، وهي منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف والرهبنة فعلنة أو فعللة على تقدير أصالة النون وزيادتها، والتنكير في رُهْباناً لإفادة الكثرة ولا بد من اعتبارها في القسيسين أيضا إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفراد كثيرة لجنس بخصلة مظنة لاتصاف الجنس بها وإلا فمن اليهود أيضا قوم مهتدون لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعد حكمهم إلى جنس اليهود.

وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عطف على أن منهم أي وبأنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له إذا فهموه أو أنهم يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود، وهذه الخصلة على ما قيل شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيتها لأقربيتهم مودة للمؤمنين واضحة. وفي الآية دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودة أينما كان وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ عطف على لا يَسْتَكْبِرُونَ وإِذا في موضع نصب بتري، وجملة تَفِيضُ في موضع الحال والرؤية بصرية أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأنهم إذا سمعوا القرآن رأيت أعينهم فائضة من الدمع، وجوز السمين وغيره الاستئناف، وأيّا ما كان فهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه. والظاهر عود ضمير سَمِعُوا للذين قالوا إنا نصارى.

وقد تقدم أن الظاهر فيه العموم، وقيل: يتعين هنا إرادة البعض، وهو من جار من الحبشة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن كل


(١) قوله وقسيسة كذا بخط مؤلفه تبعا للقاموس والذي في شرحه ان الصواب قسيسية كما نص عليه الليث.
(٢) قوله لو عاينت كذا بخط مؤلفه والمعروف من كتب اللغة لو كلمت.

<<  <  ج: ص:  >  >>