النصارى ليسوا كذلك، والفيض انصباب عن امتلاء، ووضع هنا موضع الامتلاء بإقامة المسبب مقام السبب أي تمتلىء من الدمع أو قصد المبالغة فجعلت أعينهم بأنفسها تفيض من أجل الدمع قاله في الكشاف. وأراد على ما في الكشف أن الدمع على الأول هو الماء المخصوص وعلى الثاني الحدث، وهو على الأول مبدأ مادي وعلى الثاني سببي. وفي الانتصاف أن هذه العبارة أبلغ العبارات وهي ثلاث مراتب فالأولى فاض دمع عينه وهذا هو الأصل والثانية محولة من هذه وهي فاضت عينه دمعا فإنه قد حول فيها الفعل إلى العين مجازا ومبالغة ثم نبه على الأصل والحقيقة بنصب ما كان فاعلا على التمييز، والثالثة ما في النظم الكريم وفيها التحويل المذكور إلا أنها أبلغ من الثانية باطراح التنبيه على الأصل وعدم نصب التمييز وإبرازه في صورة التعليل، وجوز الزمخشري أن تكون- من- هذه هي الداخلة على التمييز وهو مردود وإن كان الكوفيون ذهبوا إلى جواز تعريف التمييز وأنه لا يشترط تنكيره كما هو مذهب الجمهور لأن التمييز المنقول عن الفاعل يمتنع دخول من عليه وإن كانت مقدرة معه فلا يجوز تفقا زيد من شحم فليفهم مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ مِنَ الأولى لابتداء الغاية متعلقة بمحذوف وقع حالا من الدَّمْعِ أي حال كونه ناشئا من معرفة الحق. وجوز أن تكون تعليلية متعلقة بتفيض أي أن فيض دمعهم بسبب عرفانهم.
وجوز على تقدير كونها للابتداء أن تتعلق بذلك أيضا لكن لا يجوز على تقدير اتحاد متعلق مِنَ هذه ومن في مِنَ الدَّمْعِ القول باتحاد معناهما فإنه لا يتعلق حرفا جر بمعنى بعامل واحد، ومِنَ الثانية للتبعيض متعلقة بعرفوا على معنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوه كله وقرؤوا القرآن وأحاطوا بالسنة، أو لبيان ما بناء على أنها موصولة، ونص أبو البقاء على أنها متعلقة بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف ولم يذكر الاحتمال الأول. وقرىء «ترى أعينهم» على صيغة المبني للمفعول يَقُولُونَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل: ماذا يقولون؟ فأجيب يقولون: رَبَّنا آمَنَّا بما أنزل أو بمن أنزل عليه أو بهما.
وقال أبو البقاء: إنه حال من الضمير في عَرَفُوا، وقال السمين: يجوز الأمران. وكونه حالا من الضمير المجرور في أَعْيُنَهُمْ لما أن المضاف جزؤه كما في قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر: ٤٧] .
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اجعلنا عندك مع محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته الذين يشهدون يوم القيامة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أو مع الذين يشهدون بحقية نبيك صلّى الله عليه وسلّم وكتابك كما نقل عن الجبائي وروي ما بمعناه عن الحسن وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ جعله جماعة ومنهم شيخ الإسلام كلاما مستأنفا تحقيقا لإيمانهم وتقريرا له بإنكار سبب انتفائه ونفيه بالكلية على أن لا نُؤْمِنُ حال من الضمير في لَنا والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين والإنكار متوجه إلى السبب والمسبب جميعا كما في قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس: ٢٢] ونظائره لا إلى السبب فقط مع تحقيق المسبب كما في قوله تعالى فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق: ٢٠] وأمثاله، وقيل: هو معطوف على الجملة الأولى مندرج معها في حيز القول أي يقولون ربنا آمنا إلخ. ويقولون ما لنا لا نؤمن إلخ، وقيل: هو عطف على جملة محذوفة والتقدير ما لكم لا تؤمنون بالله وما لنا لا نؤمن نحن بالله إلخ. وقال بعضهم: إنه جواب سائل قال: لم آمنتم؟ واختاره الزجاج.
واعترض بأن علماء العربية صرحوا بأن الجملة المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدر لا تقترن بالواو وذكر علماء المعاني أنه لا بد فيها من الفصل إذ الجواب لا يعطف على السؤال، وأجيب بأن الواو زائدة وقد نقل الأخفش أنها تزاد في الجمل المستأنفة، ولا يخفى أنه لا بد لذلك من ثبت، والحال المذكورة على ما نص عليه الشهاب لازمة لا يتم