عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أي بالوحي كما ينبىء عنه تقييد السؤال بحين نزول القرآن لأن المساءة في الشرطية الأولى معلقة بإبداء تلك الأشياء لا بالسؤال عنها فعقبها جل شأنه بما هو ناطق باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور، فضمير عَنْها راجع إلى تلك الأشياء وليس على حد عندي درهم ونصفه كما وهم، والمراد بها ما لا خير لهم فيه من نحو التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها والأسرار الخفية التي قد يفتضحون بها، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب وتركهم ما هو الأولى بهم من الاستسلام لأمر الله تعالى من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:«خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أيها الناس قد فرض الله تعالى عليكم الحج فحجوا»
فقال رجل- وهو كما قال ابن الهمام الأقرع بن حابس،
وصرح به أحمد والدارقطني والحاكم في حديث صحيح رووه على شرط الشيخين «أكل عام يا رسول الله فسكت عليه الصلاة والسلام حتى قالها ثلاثا فقال صلّى الله عليه وسلّم: لو قلت: نعم لو جبت ولما استطعتم ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»
وذكر كما قال ابن حبان أن الآية نزلت لذلك.
وأخرج مسلم وغيره أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحفوه في المسألة فصعد ذات يوم المنبر وقال:«لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم فلما سمعوا ذلك أزموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر قال أنس رضي الله تعالى عنه: فجعلت أنظر يمينا وشمالا فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر رضي الله تعالى عنه فقال: رضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم نبيا نعوذ بالله تعالى من الفتن ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط» ،
وذكر ابن شهاب أن أم ابن حذافة واسمه عبد الله قالت له لما رجع إليها: ما سمعت قط أعق منك آمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما يقارف أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس فقال ابن حذافة: لو ألحقني بعبد أسود للحقته. وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذه الآية نزلت يومئذ. ووجه اتصالها بما قبلها على الرواية الأولى ظاهر جدا لما أن الكلام فيما يتعلق بالحج.
وذكر الطبرسي في ذلك ثلاثة أوجه، الأول أنها متصلة بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لأن من الفلاح ترك السؤال بما لا خير فيه، والثاني أنها متصلة بقوله سبحانه: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ أي فإنه بلغ ما فيه المصلحة فلا تسألوه عما لا يعنيكم، والثالث أنها متصلة بقوله جل وعلا: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أي فلا تسألوا عن تلك الأشياء فتظهر سرائركم عَفَا اللَّهُ عَنْها أي عن المسألة المدلول عليها بلا تسألوا.
والجملة استئناف مسوق لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا سبحانه عنها، وفيه من حثهم على الجد، في الانتهاء عنها ما لا يخفى أي عفا الله تعالى عن مسألتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج في كل عام جزاء لمسألتكم أو المراد تجاوز عن عقوبتكم الأخروية بسبب ذلك فلا تعودوا لمثله، وقد يحمل العفو عنها على معنى شامل للتجاوز عن العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية واختاره بعض المحققين، وجوز غير واحد كون الجملة صفة أخرى لأشياء والضمير المجرور عائد إليها وهو الرابط على معنى لا تسألوا عن أشياء لم يكلفكم الله تعالى بها. واعترض بأن هذا يقتضي أن يكون الحج قد فرض أولا ثم نسخ بطريق العفو وأن يكون ذلك معلوما للمخاطبين ضرورة أن حق الوصف أن يكون معلوم الثبوت للموصوف عند