وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قيل له: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله تعالى يقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فقال: إنها ليست لي ولا لأصحابي
لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:«ألا فليبلغ الشاهد الغائب»
فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم.
وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا معاذ مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل امرئ برأيه فعليكم أنفسكم لا يضركم ضلالة غيركم فإن من ورائكم أيام صبر المتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمر فللعامل منهم يومئذ مثل عمل أحدكم اليوم كأجر خمسين منكم قلت: يا رسول الله خمسين منهم قال: بل خمسين منكم أنتم» .
والثالث أنها للمنع عن هلاك النفس حسرة وأسفا على ما فيه الكفرة والفسقة من الضلال فقد كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم فنزلت.
والرابع أنها للرخصة في ترك الأمر والنهي إذا كان فيهما مفسدة. والخامس أنها للأمر بالثبات على الإيمان من غير مبالاة بنسبة الآباء إلى السفه، فقد قيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت أباك فنزلت، وقيل: معنى الآية يا أيها الذين آمنوا الزموا أهل دينكم واحفظوهم وانصروهم لا يضركم من ضل من الكفار إذا فعلتم ذلك، والتعبير عن أهل الدين بالأنفس على حد قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩] ونحوه، والتعبير عن ذلك الفعل بالاهتداء للترغيب فيه ولا يخفى ما فيه إِلَى اللَّهِ لا إلى أحد سواه مَرْجِعُكُمْ رجوعكم يوم القيامة جَمِيعاً بحيث لا يتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرهم فَيُنَبِّئُكُمْ بالثواب والعقاب بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من أعمال الهداية والضلال، فالكلام وعد ووعيد للفريقين، وفيه كما قيل دليل على أن أحدا لا يؤاخذ بعمل غيره وكذا يدل على أنه لا يثاب بذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم، وفيه من إظهار كمال العناية بمضمونه ما لا يخفى شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ للشهادة معان الإحضار، والقضاء، والحكم، والحلف، والعلم، والإيصاء، والمراد بها هنا الأخير كما نص عليه جماعة من المفسرين، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وقرأها الجمهور بالرفع على أنها مبتدأ واثْنانِ خبرها، والكلام على حذف مضاف من الأول أي ذو شهادة بينكم اثنان أو من الثاني أي شهادة بينكم شهادة اثنين، والتزم ذلك ليتصادق المبتدأ والخبر، وقيل: الشهادة بمعنى الشهود كرجل عدل فلا حاجة إلى التزام الحذف، وقيل:
الخبر محذوف واثْنانِ مرفوع بالمصدر الذي هو شَهادَةُ والتقدير فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان وإلى هذا ذهب الزجاج والشهادة فيه على معناها المتبادر منها لا بمعنى الإشهاد، وكلام البعض يوهم ذلك وهو في الحقيقة بيان لحاصل معنى الكلام.
وزعم بعضهم أنها بمعنى الإشهاد الذي هو مصدر المجهول واثْنانِ قائم مقام فاعله، وفيه أن الإتيان لمصدر الفعل المجهول بنائب فاعل وهو اسم ظاهر، وإن جوزه البصريون كما في شرح التسهيل للمرادي فقد منعه الكوفيون وقالوا: إنه هو الصحيح لأن حذف فاعل المصدر سائغ شائع فلا يحتاج إلى ما يسد مسد فاعله كفاعل الفعل الصريح. وإِذا ظرف لشهادة أي ليشهد وقت حضور الميت والمراد مشارفته وظهور أماراته، وحِينَ الْوَصِيَّةِ إما بدل من إِذا وفيه تنبيه على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها.
وجوز أن يتعلق بنفس الموت أي وقوع الموت أي أسبابه حين الوصية أو يحضر، وأن يكون شَهادَةُ مبتدأ