المقصود ظاهرها حتى يجيب على طبقه فاحتاجت إلى التقوية حتى يتوجه إليها المستفهم عنها، وفيه كمال توبيخ الكفرة بنسبة هذا القول إليه، وفي قوله اتَّخِذُونِي وَأُمِّي دون واتخذوني ومريم توبيخ على توبيخ كأنه قيل: أأنت قلت ما قلت مع كونك مولودا وأمك والدة والإله لا يلد ولا يولد.
وأنت تعلم أن في ندائه عليه الصلاة والسلام على الكيفية المذكورة إشارة إلى إبطال ذلك الاتخاذ. ولام لِلنَّاسِ للتبليغ، والاتخاذ إما متعد لاثنين فالياء مفعوله الأول وإِلهَيْنِ مفعوله الثاني وإما متعد لواحد فإلهين حال من المفعول ومِنْ دُونِ اللَّهِ حال من فاعل الاتخاذ أي متجاوزين الله تعالى أو صفة لإلهين أي كائنين من دون الله تعالى أي غيره منضما إليه سبحانه. فالله تعالى إله وهما بزعم الكفرة إلهان فالمراد اتخاذهما بطريق اشتراكهما معه عز وجل. وهذا كما في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ إلى قوله سبحانه: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: ١٨] وأيد ذلك بأن التوبيخ والتبكيت إنما يتأتى بذلك.
وقال الراغب: إن ظاهر ذلك القول استقلالهما عليهما الصلاة والسلام بالألوهية وعدم اتخاذ الله سبحانه وتعالى معهما إلها ولا بد من تأويل ذلك لأن القوم ثلثوا والعياذ بالله تعالى فأما أن يقال: إن من أشرك مع الله سبحانه غيره فقد نفاه معنى لأنه جل شأنه وحده لا شريك له ويكون إقراره بالله تعالى كلا إقرار. وحينئذ يكون مِنْ دُونِ اللَّهِ مجازا عن مع الله تعالى أو يقال: إن المراد بمن دون الله التوسط بينهما وبينه عز شأنه فيكون الدون إشارة لقصور مرتبتهما عن مرتبته جل جلاله لأنهم قالوا: هو عز اسمه كالشمس وهما كشعاعها.
وزعم بعضهم أن المراد اتخاذهما بطريق الاستقلال. ووجهه أن النصارى يعتقدون أن المعجزات التي ظهرت على يدي عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام لم يخلقها الله تعالى بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلين ولم يتخذوه إلها في حق ذلك البعض، ولا يخفى أن الأول كالمتعين وإليه أشار العلامة ونص على اختياره شيخ الإسلام.
واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحدا من النصارى اتخذ مريم عليها السلام إلها وأجيب عنه بأجوبة الأول أنهم لما جعلوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلها لزمهم أن يجعلوا والدته أيضا كذلك لأن الولد من جنس من يلده فذكر إِلهَيْنِ على طريق الإلزام لهم. والثاني أنهم لما عظموها تعظيم الإله أطلق عليها اسم الإله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: ٣١] لما أنهم عظموهم تعظيم الرب. والتثنية حينئذ على حد- القلم أحد اللسانين- والثالث أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك.
ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإمامي عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم: المريمية يعتقدون في مريم أنها إله. وهذا كما كان في اليهود قوم يعتقدون أن عزيرا ابن الله عن اسمه وهو أولى الأوجه عندي. وما قرره الزاعم من أن النصارى يعتقدون إلخ غير مسلم في نصارى زماننا ولم ينقله أحد ممن يوثق به عنهم أصلا. وإظهار الاسم الجليل لكونه في حيز القول المسند إلى عيسى عليه الصلاة والسلام.
قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام وهو ظاهر.
وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام حين يقول له الرب عز وجل ما يقول ترتعد مفاصله وينفجر من أصل كل شعرة من جسده عين من دم خيفة من ربه جلت عظمته، وفي بعضها أنه عليه الصلاة والسلام يرتعد خوفا ولا يفتح له باب الجواب خمسمائة عام ثم يلهمه الله تعالى الجواب بعد فيقول: سُبْحانَكَ
أي تنزيها لك من أن أقول ذلك أو يقال في حقك كما قدره ابن عطية،