يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان البرهاني لا تَسْئَلُوا من أرباب الإيمان العياني عَنْ أَشْياءَ غيبية وحقائق لا تعلم إلا بالكشف إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ تهلككم لقصوركم عن معرفتها فيكون ذلك سببا لإنكار كم والله سبحانه غيور وإنه ليغضب لأوليائه كما يغضب الليث للحرب. وفي هذا- كما قيل- تحذير لأهل البداية عن كثرة سؤالهم من الكاملين عن أسرار الغيب وإرشاد لهم إلى الصحبة مع التسليم وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ الجامع للظاهر والباطن والمتضمن لما سئلتم عنه تُبْدَ لَكُمْ بواسطته ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وهي النفس التي شقت أذنها لسماع المخالفات وَلا سائِبَةٍ وهي النفس المطلقة العنان السارحة في رياض الشهوات وَلا وَصِيلَةٍ وهي النفس التي وصلت حبال آمالها بعضا ببعض فسوفت التوبة والاستعداد للآخرة وَلا حامٍ وهو من اشتغل حينا بالطاعة ولم يفتح له باب الوصول فوسوس إليه الشيطان، وقال: يكفيك ما فعلت وليس وراء ما أنت فيه شيء فأرح نفسك فحمى نفسه عن تحمل مشاق المجاهدات.
ونقل النيسابوري عن الشيخ نجم الدين المعروف بداية أن البحيرة إشارة إلى الحيدرية والقلندرية يثقبون آذانهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويتركون الشريعة، والسائبة إشارة إلى الذين يضربون في الأرض خالعين العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة، والوصيلة إشارة إلى أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد، والحام إشارة إلى المغرور بالله عز وجل يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفة الشريعة، وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام وَإِلَى الرَّسُولِ لمتابعته قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الأفعال التي عاشوا بها وماتوا عليها أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الشريعة والطريقة وَلا يَهْتَدُونَ إلى الحقيقة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فاشتغلوا بتزكيتها لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ عما أنتم فيه فأنكر عليكم إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وزكيتم أنفسكم، وإنما ضرر ذلك على نفسه.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الآيتين لم يظهر للعبد فيه شيء يصلح للتحرير، وقد ذكر النيسابوري في تطبيقه على ما في الأنفس ما رأيت الترك له أنفس يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وهو يوم القيامة الكبرى فَيَقُولُ لهم ماذا أُجِبْتُمْ حين دعوتم الخلق قالُوا لا عِلْمَ لَنا بذلك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فتعلم جواب ما سئلنا، وهذا على ما قيل عند تراكم سطوات الجلال وظهور رداء الكبرياء وإزار العظمة ولهذا بهتوا وتاهوا وتحيروا وتلاشوا ولله سبحانه تجليات على أهل قربه وذوي حبه فيفنيهم تارة بالجلال ويبقيهم ساعة بالجمال ويخاطبهم مرة باللطف ويعاملهم أخرى بالقهر وكل ما فعل المحبوب محبوب.
وقال بعض أهل التأويل: يجمع الله تعالى الرسل في عين الجمع المطلق أو عين جمع الذات فيسألهم هل اطلعتم على مراتب الخلق في كمالاتهم حين دعوتموهم إلي؟ فينفوا العلم عن أنفسهم ويثبتوه لله تعالى لاقتضاء مقام الفناء ذلك إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ للأحباب والمريدين نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ لتزداد رغبتهم في واشكر ذلك لأزيدك مما عندي فخزائني مملوءة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وهو الروح الذي أشرق من صبح الأزل وهي روحه الطاهرة، وقيل: المراد أيدتك بجبرائيل حيث عرفك رسوم العبودية تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي مهد البدن أو في المهد المعلوم. والمعنى نطقت لهم صغيرا بتنزيه الله تعالى وإقرارك له بالعبودية وَكَهْلًا أي في حال كبرك، والمراد أنك لم يختلف حالك صغرا وكبرا بل استمر تنزيهك لربك ولم ترجع القهقرى وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وهو كتاب الحقائق والمعارف وَالْحِكْمَةَ