الملكة عدم مخصوص والعدم المطلق في ضمنه وهو متقدم على الوجود في سائر المخلوقات.
ولذا قال الإمام: إنما قدم الظلمات على النور لأن عدم المحدثات متقدم على وجودها كما جاء
في حديث رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره، وفي أخرى ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك جف القلم بما هو كائن.
وعليه الظلمة في الخبر بمعنى العدم والنور بمعنى الوجود ولا يلائمه سياق الحديث، والظاهر ما قيل الظلمة عدم الهداية وظلمة الطبيعة والنور الهداية، ومن المتكلمين من زعم أن الظلمة عرض يضاد النور واحتج لذلك بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل، وتحقيقه- على ما قيل- إن الجعل هنا ليس بمعنى الخلق والإيجاد بل تضمين شيء شيئا وتصييره قائما به قيام المظروف بالظروف أو الصفة بالموصوف والعدم من الثاني فصح تعلق الجعل به وإن لم يكن موجودا عينيا، وفي الطوالع أن العدم المتجدد يجوز أن يكون بفعل الفاعل كالوجود الحادث فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك.
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يحتمل أن يكون يَعْدِلُونَ فيه من العدل بمعنى العدول أو منه بمعنى التسوية، والكفر يحتمل أن يكون بمعنى الشرك المقابل للإيمان أو بمعنى كفران النعمة، والباء يحتمل أن تتعلق بكفروا وأن تتعلق بيعدلون، وعلى التقادير فالجملة إما إنشائية لإنشاء الاستبعاد أو إخبارية واردة للإخبار عن شناعة ما هم عليه، ثم هي إما معطوفة على جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ إنشاء أو اخبارا أو على قوله سبحانه خَلَقَ صلة الذي أو على الظُّلُماتِ مفعول جعل فالاحتمالات ترتقي إلى أربعة وستين حاصلة من ضرب ستة عشر احتمالات المعطوف في أربعة أعني احتمالات المعطوف عليه وإذا لوحظ هناك أمور أخر مشهورة بلغت الاحتمالات أربعة آلاف وزيادة ولكن ليس لنا إلى هذه الملاحظة كبير داع، والذي اختاره كثير من المحققين من تلك الاحتمالات أن تكون الجملة معطوفة على جملة الحمد والعدل بمعنى العدول أي الانصراف والجار متعلق بكفروا وهو من الكفر بمعنى الشرك أو كفران النعمة ويقدر مضاف بعد الجار، والمعنى أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلق من النعم الجسام التي أنعم بها على الخاص والعام ثم الذين أشركوا به أو كفروا بنعمه يعدلون فيكفرون نعمه، وأن تكون معطوفة على جملة الصلة والعدل بمعنى التسوية والجار متعلق به والكفر بأحد المعنيين.
والمعنى أنه سبحانه خلق هذه النعم الجسام والمخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواه، ثم إن هؤلاء الكفرة أو هؤلاء الجاحدين للنعم يسوون به غيره ممن لا يقدر عليها وهم في قبضة تصرفه ومهاد تربيته.
وثُمَّ لاستبعاد ما وقع من الذين كفروا أو للتوبيخ عليه كما قال ابن عطية، وجعلها أبو حيان لمجرد التراخي في الزمان وهو وإن صح هنا باعتبار أن كل ممتد يصح فيه التراخي باعتبار أوله والفور باعتبار آخره كما حققه النحاة إلا أن ما ذكر أوفق بالمقام، ونكتة وضع الرب موضع ضميره تعالى على كل تقدير تأكيد أمر الاستبعاد، ووجه جعل الباء متعلقة بيعدلون على أحد احتماليه وبكفروا على الاحتمال الآخر أنه إذا كان من العدل بمعنى التسوية يقتضي التوصل بالباء بخلاف ما إذا كان منه بمعنى العدول، فالظاهر أنها حينئذ متعلقة بما قبلها، وما قاله المحقق التفتازاني مني إنه لا مخصص لكل من توجيهي بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ بواحد من العطفين يمكن دفعه بأن وجه تخصيص كل بما خصص به اتساق نظم الآية حينئذ وظهور شدة المناسبة بين ما عطف بثم الاستبعادية وبين ما عطف عليه، وذلك لأنه إذا قيل مثلا في الصورة الأولى إن الله تعالى استحق جميع المحامد من العباد فهم أن العدول عنه تعالى والإعراض عن حمده سبحانه في غاية الاستبعاد فيناسب أن يقال: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه فلا يحمدونه ولا يلتفتون لفتة، ولا