للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لسياق النظم مؤد إلى اختلال النظم الكريم. كيف لا والمعنى حينئذ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا لهم بذنوبهم وأنه بين الفساد انتهى. ولا يخفى أن التنوين التفخيفي لا يأبى الوصف. وما ورد فيه ذلك من النكرات أكثر من أن يحصى، وأما ما ذكره بعد فقد قال الشهاب: إنه غفلة منه أو تغافل عن تفسيرهم فَأَهْلَكْناهُمْ إلخ الآتي بقولهم لم يغن ذلك عنهم شيئا. وتمكين الشيء في الأرض- على ما قيل- جعله قارا فيها.

ولما لزم ذلك جعلها مقرا له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة مكنه في الأرض. ومنه قوله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الأحقاف: ٢٦] وأخرى مكن له في الأرض. ومنه قوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ [الكهف: ٨٤] حتى أجرى كل منهما مجرى الآخر. ومنه قوله تعالى: ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ بعد ما تقدم كأنه قيل في الأول: مكنا لهم وفي الثاني ما لم نمكنكم.

وفي التاج أن مكنته ومكنت له مثل نصحته ونصحت له. وقال أبو علي: اللام زائدة مثل رَدِفَ لَكُمْ [النمل: ٧٢] وكلام الراغب في مفرداته يؤيده. وذكر بعض المحققين أن مكنه أبلغ من مكن له. ولذلك خص المتقدم بالمتقدمين والمتأخر بالمتأخرين وما إما موصولة صفة لمحذوف تقديره التمكين الذي لم نمكنه لكم أو نكرة موصوفة أي تمكينا لم نمكنه. وعليهما فهي مفعول مطلق والعائد إليها من الصلة أو الصفة محذوف، وقيل: إنها مفعول به لأن المراد من التمكين الإعطاء كما يشير إليه ما روي عن قتادة أي أعطيناكم ما تمكنوا به من أنواع التصرف ما لم نعطكم. وقيل: إنها مصدرية ظرفية أي مدة تمكينكم ولا يخفى بعده والخطاب للكفرة. وقيل: لجميع الناس، وقيل:

للمؤمنين. والظاهر الأول والالتفات لما في مواجهتهم بضعف حالهم من التبكيت ما لا يخفى. وقيل: ليتضح مرجع الضميرين ولا يشتبه من أول الأمر، وهي نكتة في الالتفات لم يعرج عليها أهل المعاني.

وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ أي المطر كما روي عن هارون التيمي. ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا. وقيل: السحاب واستعمالها في ذلك مجاز مرسل. وقيل: هي على حقيقتها بمعنى المظلة والمجاز في إسناد الإرسال إليها لأن المرسل ماء المطر وهي مبدأ له. وفيه من المبالغة ما لا يخفى. والإرسال والإنزال- كما في البحر- متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن وهو ما ينزل من الضرع متتابعا عَلَيْهِمْ مِدْراراً أي غزيرا كثير الصب، وهو صيغة مبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث، وهو حال من السماء والظرف متعلق بأرسلنا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ أي صيرناها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي من تحت مساكنهم. والمراد أنهم عاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار. والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا. ولم يقل سبحانه: أجرينا الأنهار كما قال عز شأنه: أَرْسَلْنَا السَّماءَ للإيذان بكونها مسخرة مستمرة الجريان لا لأن النهر لا يكون إلا جاريا فلا يفيد الكلام لأن النظم حينئذ ناظر إلى كونه من تحتهم فالفائدة ظاهرة، ولو كان ما ذكر صحيحا لما ورد في النظم الكريم كقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [البقرة: ٢٥ وغيرها] واستظهر كون الجعل بمعنى الإنشاء والإيجاد وهو مخصوص به تعالى فلذا غير الأسلوب. وعليه فالجملة في موضع الحال من المفعول. وليس المراد- على ما قيل- بتعداد هاتيك النعم العظام الفائضة عليهم بعد ذكر تمكينهم بيان عظم جنايتهم في كفرانها واستحقاقهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيان حيازتهم لجميع أسباب نيل المآرب ومبادئ الأمن من المكاره والمعاطب وعدم إغناء ذلك عنهم شيئا. وينبىء عن عدم الإغناء عند جمهور المفسرين.

قوله تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ والفاء للتعقيب. وقيل: فصيحة. والمراد فكفروا فأهلكناهم. ورجح الأول، والباء للسببية أي أهلكنا كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب كتكذيب الرسل عليهم الصلاة

<<  <  ج: ص:  >  >>