القرآنية لتغاير الإعراض والتكذيب فيها. والفاء في قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ للترتيب أيضا بناء على أن ما تقدم لكونه أمرا عظيما يقتضي ترتب الوعيد عليه، وقيل: يستهزئون إيذانا بأن ما تقدم كان مقرونا بالاستهزاء.
واستدل به أبو حيان على أن في الكلام معطوفا محذوفا أي فكذبوا بالحق واستهزؤوا به. ولا يخفى أن ذلك مما لا ضرورة إليه. وما عبارة عن الحق المذكور. وعبر عنه بذلك تهويلا لأمره بإبهامه وتعليلا للحكم بما في حيز الصلة. والأنباء جمع نبأ وهو الخبر الذي يعظم وقعه. والمراد بأنباء القرآن التي تأتيهم ويتحقق مدلولها فيهم ويظهر لهم آيات وعيده بما يحصل بهم في الدنيا من القتل والسبي والجلاء ونحو ذلك من العقوبات العاجلة، وقيل: المراد ما يعم ذلك والعقوبات التي تحل بهم في الآخرة من عذاب النار ونحوه وقيل: المراد بأنباء ذلك ما تضمن عقوبات الآخرة أو ظهور الإسلام وعلو كلمته، وظاهر ما يأتي من الآيات يرجح الأول.
وصرح بعض المحققين بأن إضافة أَنْباءُ بيانية وهو احتمال مقبول وادعاء أنه مقحم وأن المعنى سيظهر لهم ما استهزؤوا به من الوعيد الواقع فيه أو من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أو نحو ذلك لا وجه له إذ لا داعي لإقحامه. وفي البحر إنما قيد الكذب بالحق هنا وكان التنفيس بسوف وفي [الشعراء: ٦] فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ بدون تقيد الكذب والتنفيس بالسين لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مراد إحالة على الأول وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس فجيء بالسين.
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ استئناف مسوق لتعيين ما هو المراد بما تقدم، وقيل: شروع في توبيخهم ببذل النصح لهم والأول أظهر. والرؤية عرفانية، وقيل: بصرية، والمراد في أسفارهم وليس بشيء. وهي على التقديرين تستدعي مفعولا واحدا. وكَمْ استفهامية كانت أو خبرية معلقة لها عن العمل مفيدة للتكثير سادة مع ما في حيزها مسد مفعولها. وهي منصوبة بأهلكنا على المفعولية. وهي عبارة عن الأشخاص، وقيل: إن الرؤية علمية تستدعي مفعولين والجملة سادة مسدهما. ومِنْ قَرْنٍ مميز لكم على أنه عبارة عن أهل عصر من الأعصار سموا بذلك لاقترانهم مدة من الزمان فهو من قرنت. واختلف في مقدار تلك المدة فقيل: مائة وعشرون سنة، وقيل: مائة، وقيل: ثمانون، وقيل: سبعون، وقيل: ستون، وقيل: ثلاثون، وقيل: عشرون. وقيل: مقدار الأوسط في أعمار أهل كل زمان. ولما كان هذا لا ضابط له يضبط قال الزجاج: إنه عبارة عن أهل عصر فيهم نبي أو فائق في العلم على ما جرت به عادة الله تعالى. ويحتمل أن يعتبر ذلك مائة سنة لما ورد أن الله تعالى قيض لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها. وقيل: هو عبارة عن مدة من الزمان اختلف فيها على طرز ما تقدم. واختار بعضهم أنه حقيقة في الزمان المعين وفي أهله. والمراد به هنا الأهل من غير تجشم تقدير مضاف أو ارتكاب تجوز.
وجوز بعضهم انتصاب كَمْ على المصدرية بأهلكنا بمعنى إهلاك أو على الظرفية بمعنى أزمنة وهو تكلف.
ومن الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا. وهمزة الإنكار لتقرير الرؤية. والمعنى ألم يعرف هؤلاء المكذبون المستهزءون بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار كم أمة أهلكنا من قبل خلقهم أو من قبل زمانهم كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط وأضرابهم فالكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. وقوله تعالى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ استئناف بياني كأنه قيل ما كان حالهم؟، وقال أبو البقاء: إنه في موضع جر صفة قَرْنٍ لأن الجمل بعد النكرات صفات لاحتياجها إلى التخصيص. وجمع الضمير باعتبار معناه. وتعقبه مولانا شيخ الإسلام بأن تنوينه التفخيمي مغن له عن استدعاء الصفة. على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونه ومضمون ما عطف عليه من الجمل الأربع مفروغا عنه غير مقصود