للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان بمكونها، وأصل الإعراض صرف الوجه عن شيء من المحسوسات. واستعماله في عدم الاعتناء أو ترك النظر مجاز على ما حققه البعض. وفسر شيخ الإسلام الإعراض على الوجه الأول بما كان على وجه التكذيب والاستهزاء، و «عن» متعلقة بمعرضين. والتقديم لرعاية الفواصل.

والجملة بعد إلا- كما قال الكرخي- في موضع النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعله المخصص بالوصف كما قيل وهي مشتملة على ضمير كل منهما. وإيثارها على أعرضوا عنها كما وقع مثله في قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا [القمر: ٢] للدلالة على استمرارهم على الإعراض حسب استمرار إتيان الآيات.

وفي الكلام إشارة إلى غاية انهماكهم في الضلال حيث آذن أن إعراضهم عما يأتيهم من الآيات أن الإتيان كما يفصح عنه كلمة لَمَّا في قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ

فإن الحق عبارة عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية آية منه. وعبر عنه بذلك إظهارا لكمال فظاعة ما فعلوا به. والفاء على تقدير أن يراد بالآيات الآيات التنزيلية- كما هو الأظهر على ما قرره مولانا شيخ الإسلام- لترتيب ما بعدها على ما قبلها لا باعتبار أنه مغاير له حقيقة واقع عقيبه أو حاصل بسببه بل على أنه عينه في الحقيقة والترتيب بحسب التغاير الاعتباري حيث إن مفهوم التكذيب بالحق أشنع من الإعراض المذكور إذ هو مما لا يتصور صدوره من أحد.

ولذلك أخرج مخرج اللازم البين البطلان وترتب عليه بالفاء إظهارا لغاية بطلانه. ثم قيد ذلك بكونه بلا تأمل بل آن المجيء تأكيدا لشناعة فعلهم الفظيع. وعلى تقدير أن يراد الآيات التكوينية داخلة على جواب شرط محذوف.

والمعنى على الأول حيث أعرضوا عن تلك الآيات حين إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن لعاقل تكذيبه أصلا من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبة لتصديقه. وعلى الثاني أنهم إن كانوا معرضين عن الآيات حال إتيانها فلا تعجب من ذلك فقد فعلوا بما هو أعظم منها ما هو أعظم من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات. واختار في البحر كون الفاء سببية وما بعدها مسبب عما قبلها. وجوز أيضا كونها سببية على معنى أن ما بعدها سبب لما قبلها. فقد قال الرضي: وقد تكون فاء السببية بمعنى لام السببية وذلك إذا كان ما بعدها سببا لما قبلها نحو قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: ٣٤] وأطلق عليها الكثير حينئذ الفاء التعليلية.

وهل تفيد الترتيب حينئذ أم لا؟ لم يصرح الرضي بشيء من ذلك، ويفهم كلام البعض أنها للترتيب والتعقيب أيضا.

واستشكل بأن السبب يتقدم على المسبب لا متعقب إياه. وتكلف صاحب التوضيح لتوجيه بأن ما بعد الفاء علة باعتبار معلول باعتبار دخول الفاء عليه باعتبار المعلولية لا باعتبار العلية. ورد بأنها لا تتأتى في كل محل، وفي التلويح الأقرب ما ذكره القوم من أنها إنما تدخل على العلل باعتبار أنها تدوم فتتراخى عن ابتداء الحكم، وفي شرح المفتاح الشريفي فإن قلت: كيف يتصور ترتب السبب على المسبب؟ قلت: من حيث إن ذكر المسبب يقتضي ذكر السبب انتهى. وعليه يظهر وجه الترتيب هنا مطلقا. لكن ظاهر كلام النحاة وغيرهم أن هذه الفاء تختص بالوقوع بعد الأمر كأكرم زيدا فإنه أبوك، واعبد الله فإن العبادة حق إلى غير ذلك فالوجه الأول أولى وليست الفاء فصيحة كما توهمه بعضهم من قول العلامة البيضاوي في بيان معنى الآية كأنه قيل: لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا بالقرآن لأن الفاء الفصيحة لا تقدر جواب لما لأن جوابها الماضي لا يقترن بالفاء على الفصيح فكيف يقدر للفاء ما يقتضي عدمها فما مراد العلامة إلا بيان حاصل المعنى ولذا أسقط الفاء. نعم قيل: إن هذا المعنى مما ينبغي تنزيه التنزيل عنه وفيه تأمل.

وقد صرح بعض المحققين أن أمر الترتيب يجري في الآية سواء كانت الآية بمعنى الدليل أو المعجزة أو الآية

<<  <  ج: ص:  >  >>