الفاء صحة حلول مع محلها أو الحال. وشبهة من قال: إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب. ويوضح لك أنها ليست به انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط، وأجيب بأن الواو أجريت هنا مجرى الفاء. وجعلها ابن الأنباري مبدلة منها. ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود وابن إسحاق «فلا نكذب» ، واعترض أيضا ما ذكره الزمخشري من معنى الجزائية بأن ردهم لا يكون سببا لعدم تكذيبهم. وأجيب بأن السببية يكفي فيها كونها في زعمهم. ورد بأن مجرد الرد لا يصلح لذلك فلا بد من العناية بأن يراد الرد الكائن بعد ما ألجأهم إلى ذلك إذ قد انكشفت لهم حقائق الأشياء. ولهذه الدغدغة اختار من اختار العطف على مصدر متوهم قبل كأنه قيل: ليت لنا ردا وانتفاء تكذيب وكونا من المؤمنين، وقرأ نافع، وابن كثير، والكسائي برفع الفعلين، وخرج على أن ذلك ابتداء كلام منهم غير معطوف على ما قبله والواو كالزائدة كقول المذنب لمن يؤذيه على ما صدر منه: دعني ولا أعود يريد لا أعود تركتني أو لم تركتني. ومن ذلك على ما قاله الإمام عبد القاهر قوله:
اليوم يومان مذ غيبت عن نظري ... نفسي فداؤك ما ذنبي فاعتذر
وكأن المقتضي لنظمه في هذا السلك إفادة المبالغة المناسبة لمقام المغازلة، واختار بعضهم كونه ابتداء كلام بمعنى كونه مقطوعا عما في حيز التمني معطوفا عليه عطف اخبار على إنشاء. ومن النحاة من جوزه مطلقا، ونقله أبو حيان عن سيبويه، وجوز أن يكون داخلا في حكم التمني على أنه عطف على نُرَدُّ أو حال من الضمير فيه، فالمعنى- كما قال الشهاب- على تمني مجموع الأمرين الرد وعدم التكذيب أي التصديق الحاصل بعد الرد إلى الدنيا لأن الرد ليس مقصودا بالذات هنا، وكونه متمنى ظاهر لعدم حصوله حال التمني وإن كان التمني منصبا على الإيمان والتصديق فتمنيه لأن الحاصل الآن لا ينفعهم لأنهم ليسوا في دار تكليف فتمنوا إيمانا ينفعهم وهو إنما يكون بعد الرد المحال والمتوقف على المحال محال. وقرأ ابن عامر برفع الأول ونصب الثاني على ما علمت آنفا، والجوابية إما بالنظر إلى المجموع أو بالنظر إلى الثاني وعدم التكذيب بالآيات مغاير للإيمان والتصديق فلا اتحاد.
وقرىء شاذا بعكس هذه القراءة بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ إضراب عما يؤذن به تمنيهم من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزم صحيح ناشىء عن رغبة في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصاف به بل لأنه بدا وظهر لهم في وقوفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من ثالثة الأثافي والداهية الدهياء فلشدة هول ذلك ومزيد ضجرهم منه قالوا ما قالوا، فالمراد من الموصول النار على ما يقتضيه السوق ومن إخفائها ستر أمرها وذلك بإنكار تحققها وعدم الإيمان بثبوتها أصلا فكأنه قيل: بل بدا لهم ما كانوا يكذبون به في الدنيا وينكرون تحققه.
وإنما لم يصرح سبحانه بالتكذيب كما في قوله عز شأنه: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ [الرحمن: ٤٣] وقوله عز من قائل: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطور: ١٤] مع أن ذلك أنسب بما قبل من قولهم: «ولا نكذب بآيات ربنا» مراعاة لما في مقابله من البدو في الجملة مع ما في ذلك من الرمز الخفي إلى أن تكذيبهم هذا لم يكن في محله رأسا لقوة الدليل، وقيل: المراد بما كانا يخفونه قبائحهم من غير الشرك التي كانوا يكتمونها عن الناس فتظهر في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم، وقيل: المراد به الشرك الذي أنكروه في بعض مواقف القيامة بقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ، وقيل: المراد به أمر البعث والنشور، والضمير المرفوع لرؤساء الكفار والمجرور لأتباعهم أي ظهر للتابعين ما كان الرؤساء المتبوعون يخفونه في الدنيا عنهم من أمر البعث والنشور، ونسب إلى الحسن واختاره الزجاج.