وقد يقال: إن المراد بهم الأصنام إلا أنه عبر بصيغة العقلاء جريا على زعمهم قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ تكرير الأمر مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به وإيذانا باختلاف القولين من حيث إن الأول حكاية لما مر من جهته تعالى من النهي والثاني لما من جهته عليه الصلاة والسلام من الانتهاء عن عبادة ما يعبدون. وفي هذا القول استجهال لهم وتنصيص على أنهم فيما هم فيه من عبادة غير الله تعالى تابعون لأهواء باطلة وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلا وإشعار بما يوجب النهي والانتهاء. وفيه- كما قيل- إشارة إلى عدم كفاية التقليد الصرف في مثل هذه المطالب، وقيل وهو في غاية البعد: إن المراد لا أتبع أهواءكم في طرد المؤمنين قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت. وهو استئناف مؤكد لانتهائه عليه الصلاة والسلام عما نهي عنه مقرر لكونه في غاية الضلال.
وقرأ يحيى بن وثاب «ضللت» بكسر اللام وهو لغة فيه، والفتح كما قال أبو عبيدة- هو الغالب-.
وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ عطف على ما قبله، والعدول إلى الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار أي دوام النفي واستمراره لا نفي الدوام والاستمرار، والمراد- كما قيل-، وما أنا إذا في شيء من الهدى حتى أعد في عدادهم، وفيه تعريض بأن المقول لهم كذلك قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ تبيين للحق الذي عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبيان لاتباعه إياه إثر إبطال الباطل الذي فيه الكفرة وبيان عدم اتباعه عليه الصلاة والسلام له في وقت من الأوقات. والبينة- كما قال الراغب- الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر أو الحجة الفاصلة بين الحق والباطل على أنها من البينونة أي الانفصال، وأيا ما كان فالمراد بها القرآن- كما قال الجبائي- وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد أني على يقين. وعن الحسن أن المراد بها النبوة وهو غير ظاهر كتفسيرها بالحجج العقلية أو ما يعمها، والتنوين للتفخيم أن بينة جليلة الشأن مِنْ رَبِّي أي كائنة من جهته سبحانه. ووصفها بذلك لتأكيد ما أفاده التنوين.
وجوز أن تكون مِنْ اتصالية، وفي الكلام مضاف أي بينة متصلة بمعرفة ربي، وقيل: هي أجلية متعلقة بما تعلق به الخبر ويقدر المضاف أيضا أي كائن على بينة لأجل معرفة ربي والأول أظهر، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم من التشريف ورفع المنزلة ما لا يخفى.
وقوله سبحانه: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ- كما قال أبو البقاء- جملة إما مستأنفة أو حالية بتقدير قد في المشهور جيء بها لاستقباح مضمونها واستبعاد وقوعه مع تحقق ما يقتضي عدمه أو للتفرقة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم، والضمير للبينة، والتذكير باعتبار المعنى المراد، وقال الزجاج: لأنها بمعنى البيان، وجوز أن يكون الضمير لربي على معنى إني صدقت به ووحدته وأنتم كذبتم به وأشركتم.
وقوله تعالى: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بالقرآن وهو عدم مجيء ما وعد فيه من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم بطريق الاستهزاء أو الإلزام زعمهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، وقال الإمام: إنه عليه الصلاة والسلام كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك فقال لهم: ما عِنْدِي إلخ وكأن الكلام مبين أيضا لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لعدم الالتفات إلى نهي الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنه والإخبار بنزول العذاب بسببه أي ليس عندي ما يستعجلونه من العذاب الموعود به وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيب القرآن أو عدم الالتفات إلى النهي عنه والوعيد عليه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به أي ليس أمره مفوضا إلي إِنِ الْحُكْمُ أي ما الحكم في تأخير ذلك إِلَّا لِلَّهِ وحده من غير أن يكون لغيره سبحانه خل ما فيه بوجه من الوجوه.