وجوز أن تكون في موضع النعت للنكرة، والكلام مسوّق- كما قيل- لبيان تعلق علمه تعالى بأحوال المشاهدات المتغيرة بعد بيان تعلقه بذواتها فإن تخصيص حال السقوط بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاء بذكرها عن ذكر سائر الأحوال كما أن ذكر أحوال الورقة وما عطف عليها خاصة دون أحوال سائر ما في البر والبحر من الموجودات التي لا يحيط بها نطاق الحصر باعتبار أنها أنموذج لأحوال سائرها، قيل: ولعل الاكتفاء بحال السقوط دون الاكتفاء بغيرها من الأحوال لشدة ملاءمتها لما سيأتي إن شاء الله تعالى في آية التوفي، ولأن التغيير فيها أظهر فهو أوفق بما سيقت له الآية، وقيل: لأن العلم بالسقوط لكونه من الأحوال الساقطة التي يغفل عنها يستلزم العلم بغيره من الأحوال المعتنى بها فتدبر، فكأنه قيل: وما تتغير ورقة من حال إلى حال إلا يعلمها وَلا حَبَّةٍ عطف على وَرَقَةٍ.
وقوله سبحانه: فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ متعلق بمحذوف وقع صفة لحبة مفيدة لكمال ظهور علمه تعالى.
والمراد من ظلمات الأرض بطونها، وكني بالظلمة عن البطن لأنه لا يدرك فيه كما لا يدرك في الظلمة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد ظلمات الأرض ما تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع أو تحت حجر أو شيء، وقوله تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ عطف على «ورقة» أيضا داخل معها في حكمها، والمراد بالرطب واليابس رطب ويابس من شأنهما السقوط كالثمار مثلا لاقتضاء العطف ذلك وقوله سبحانه: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كالتكرير لقوله سبحانه إِلَّا يَعْلَمُها لأن معناهما واحد في المآل سواء أريد بالكتاب المبين علمه تعالى أو اللوح المحفوظ الذي هو محل معلوماته سبحانه، وإلى هذا ذهب الزمخشري وأراد كما قال السعد: إنه تكرير من جهة المعنى، وأما من جهة اللفظ فهو صفة للمذكورات كما أن إِلَّا يَعْلَمُها صفة لورقة. وأورد عليه بأن صفة شيء كيف تكون تكريرا لصفة شيء آخر معنى. وأجيب بأنه غير وارد لأن الورقة داخلة في الرطب واليابس فلا تغاير بحسب المعنى فيصح ما ذكر، وقيل: إنه بدل من الاستثناء الأول بدل الكل إن فسر الكتاب بالعلم وبدل الاشتمال إن فسر باللوح وفيه تأمل. وقرىء «ولا حبة» ، «ولا رطب ولا يابس» بالرفع على العطف على محل وَرَقَةٍ وخص بعضهم هذه القراءة بالأخيرين.
وجوز أن يكون الرفع على الابتداء والخبر إِلَّا فِي كِتابٍ قيل وهو الأنسب بالمقام لشمول الرطب واليابس حينئذ لما ليس من شأنه السقوط. وقد جعلهما غير واحد شاملين لجميع الأشياء لأن الأجسام كلها لا تخلو من أن تكون رطبة أو يابسة ويدخل في ذلك الحار والبارد، والمراد من كل معناه اللغوي لا مصطلح الأطباء كما لا يخفى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالرطب ما ينبت وباليابس ما لا ينبت. وفي رواية أخرى عنه أن الأول الماء والثاني الثرى. وروى أبو الشيخ عنه ما يفيد العموم، ولعله الأولى بالقبول، وقيل: الرطب الحي واليابس الميت.
وروى الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: الورقة السقط والحبة الولد وظلمات الأرض الأرحام والرطب ما يحيا واليابس ما يغيض،
وأنا أجل أبا عبد الله رضي الله تعالى عنه عن التفوه بهذا التفسير إذ هو خلاف الظاهر جدا، ومثله في عدم التبادر ما أخرجه أبو الشيخ عن محمد بن جحادة أنه قال: إن لله تعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده، وذلك قوله سبحانه: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ ثم إن تفسير الكتاب باللوح هو الذي مشى عليه جماعة من المفسرين منهم الزجاج فقد قال: إنه تعالى أثبت المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال سبحانه: إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الحديد:
٢٢] .
وفي رواية لمسلم «أن الله تعالى كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنة» .