ودعا هناك فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ إلى قوله رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إبراهيم: ٣٧- ٤١] فإنه يستنبط من ذلك أن المذكور في القرآن بالكفر هو عمه حيث صرح في الأثر الأول أن الذي هلك قبل الهجرة هو عمه ودل الأثر الثاني على أن الاستغفار لوالديه كان بعد هلاك أبيه بمدة مديدة فلو كان الهالك هو أبوه الحقيقي لم يصح منه عليه السلام هذا الاستغفار له أصلا فالذي يظهر أن الهالك هو العم الكافر المعبر عنه بالأب مجازا وذلك لم يستغفر له بعد الموت وأن المستغفر له إنما هو الأب الحقيقي وليس بآزر، وكان في التعبير بالوالد في آية الاستغفار وبالأب في غيرها إشارة إلى المغايرة.
ومن الناس من احتج على أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام بأن هذه دالة على أنه عليه السلام شافهة بالغلظة والجفاء لقوله تعالى فيها: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ أي الذين يتبعونك في عباداتها فِي ضَلالٍ عظيم عن الحق مُبِينٍ أي ظاهر لا اشتباه فيه أصلا، ومشافهة الأب بالجفاء لا يجوز لما فيه من الإيذاء. وآية التأفيف بفحواها تعم سائر أنواع الإيذاءات كعمومها للأب الكافر والمسلم. وأيضا أن الله تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى فرعون أمره بالرفق معه. والقول اللين له رعاية لحق التربية وهي في الوالد أتم. وأيضا الدعوة بالرفق أكثر تأثيرا فإن الخشونة توجب النفرة فلا تليق من غير إبراهيم عليه السلام مع الأجانب فكيف تليق منه مع أبيه وهو الأواه الحليم.
وأجيب بأن هذا ليس من الإيذاء المحرم في شيء وليس مقتضى المقام إلا ذاك ولا نسلم أن الداعي لأمر موسى عليه السلام باللين مع فرعون مجرد رعاية حق التربية وقد يقسو الإنسان أحيانا على شخص لمنفعته كما قال أبو تمام:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم
وقال أبو العلاء المعري:
اضرب وليدك وادلله على رشد ... ولا تقل هو طفل غير محتلم
فرب شق برأس جر منفعة ... وقس على شق رأس السهم والقلم
وقال ابن خفاجة الأندلسي:
نبه وليدك من صباه بزجره ... فلربما أغفى هناك ذكاؤه
وانهره حتى تستهل دموعه ... في وجنتيه وتلتظي أحشاؤه
فالسيف لا يذكو بكفك ناره ... حتى يسيل بصفحتيه ماؤه
وكون الرفق أكثر تأثيرا غير مسلم على الإطلاق فإن المقامات متفاوتة كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام تارة: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥] وأخرى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: ٧٣، التحريم: ٩] نعم لو ادعى أن ما ذكر مؤيد لكون آزر ليس أبا حقيقيا لإبراهيم عليه السلام لربما قبل وحيث ادعى أنه حجة على ذلك فلا يقبل فتدبر. والرؤية إما علمية والظرف مفعولها الثاني وإما بصرية فهو حال من المفعول. والجملة تعليل للإنكار والتوبيخ ومنشأ ضلال عبدة الأصنام على ما يفهم من كلام أبي معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض كتبه اعتقاد أن الله تعالى جسم. فقد نقل عنه الإمام أنه قال: إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه سبحانه جسم ذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضا صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون بالسماوات عندهم فلا جرم اتخذوا صورا وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرواء والهيكل وجعلوا الأحسن هيكل الإله وما دونه هيكل الملك وواظبوا على عبادة ذلك قاصدين الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة، وذكر الإمام نفسه في أصل عبادة الأصنام أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال